تونس بين الهاوية والخلاص: هل كان الدرس القاسي مدخلاً للوفاق الوطني؟

في عالم السياسة، لا يوجد حاكم – سواء كان رئيسًا أو ملكًا – يحكم وحده. الحكم دائمًا محاط بقوى متعددة تحميه وتراقبه وتتحكم به أحيانًا. هذه القوى، إن كانت قانونية وعلنية، تُسمى في الدول المتقدمة “صمام الأمان”. أما إن كانت سرية وفوق المحاسبة، فتعرف في الدول المتخلفة باسم “الدولة العميقة”.

بين الدولة العميقة وصمام الأمان، تتحدد طبيعة الأنظمة، وتُصنع مصائر الشعوب، وتُدار المعارك بين الاستبداد والحرية. وفي قلب هذا الصراع نجد تونس… تتأرجح منذ سنوات بين حلم الخلاص وكابوس السقوط.


من يحكم فعلاً في الدول؟

ليس هناك رئيس أو ملك يحكم بمفرده. كل حاكم مهما علا شأنه، تُبقيه نخبة محددة في السلطة، وتملك في يدها القرار بإزاحته متى شاءت. هذه النخبة قد تكون معلنة وشرعية في الأنظمة الديمقراطية، أو خفية وفوق القانون في الأنظمة الديكتاتورية.

في الدول المتقدمة، مصالح هذه النخبة مرتبطة مباشرة باستقرار الدولة ورفاهية المواطن، أما في الدول المتخلفة، فمصالحها متشابكة بالحاكم نفسه، وترتبط ببقائه أو رحيله، حتى لو كلّف ذلك خراب البلد.


الدولة العميقة: شبكة خفية تقود من الظل

في الأنظمة المتخلفة، تتشكل الدولة العميقة من شخصيات نافذة داخل مؤسسات الدولة، أبرزها:

  • الجيش والأجهزة الأمنية

  • الاستخبارات

  • القضاء الموجه

  • رجال الأعمال الكبار

  • الإعلام المدجَّن

هذه القوى لا تعمل تحت ضوء القانون، بل في الظلام. تتحكم بالمشهد السياسي، وتُعين الحكام وتُطيح بهم، وتُعيد تشكيل الحياة السياسية حسب مصالحها الخاصة.

أهم خصائص الدولة العميقة:

  1. العمل غير المُعلن: تتحرك من خلف الكواليس لكن الجميع يعرف وجودها.
  2. حماية المصالح الذاتية: تقدم مصالحها فوق كل اعتبار، حتى لو خرب البلد.
  3. التأثير في القرار السياسي: من خلال الضغط، أو التهديد، أو خلق الأزمات.
  4. التحكم في الإعلام والرأي العام: بالتلاعب بالحقائق وتوجيه النقاشات.
  5. تلفيق التهم للمعارضين: كوسيلة للسيطرة على الخطاب العام.
  6. تعطيل كل محاولة إصلاحية لا تتماشى مع مصالحها.
  7. التنسيق مع جهات أجنبية من أجل حماية مواقعها داخل السلطة.

صمام الأمان: حارس الدولة الحقيقي

في المقابل، تمتلك الدول المتقدمة آلية تُعرف بـ “صمام الأمان”.
وهو ليس مجموعة سرية أو جهة أمنية مستبدة، بل شبكة مؤسسات تعمل علنًا وبشفافية بهدف واحد: حماية الدولة من الانهيار، وليس حماية الحاكم من الشعب.

مكونات صمام الأمان:

  1. قضاء مستقل: يمنع الظلم ويحمي العدالة.
  2. مؤسسات أمنية مهنية: تعمل لحفظ النظام وليس لقمع المعارضين.
  3. دستور واضح وقوانين مستقرة: تُنظم العلاقات بين السلطات وتحفظ الحقوق.
  4. إعلام حر: يكشف الفساد ويراقب السلطة.
  5. مجتمع مدني حيّ: يلعب دور الوسيط بين الدولة والمواطنين.
  6. اقتصاد منتج ومستقل: يقلل من الأزمات ويزيد الاستقرار.
  7. قنوات حوار سياسي فعالة: تمنع الانفجارات الاجتماعية وتحمي السلم الأهلي.

في هذا السياق، لا تكون المؤسسات أداة في يد الحاكم، بل تكون هي الضامن لاستمرارية الدولة، سواء بقي الحاكم أو رحل.


صمام الأمان أم الدولة العميقة؟ أيّهما يحكم في تونس؟

في الحالة التونسية، يمكن القول إن ما نُسميه مجازًا “صمام الأمان” هو في الحقيقة دولة عميقة بلباس قانوني.
قوى أمنية، استخباراتية، وعسكرية، تمتلك السلاح والمعلومة وتتحكم في كل مفاصل الدولة من الخلف.

هذه القوى لا تزال تتحكم بمسار البلاد رغم الثورة، وتغيّر الواجهات كما تشاء، وتُعيد تشكيل المشهد السياسي بما يتماشى مع مصالحها.

حين سقط بن علي، لم يكن ذلك نتيجة “ثورة شعبية” فقط، بل نتيجة تخلي الدولة العميقة عنه بتعليمات خارجية.
ثم سلموا السلطة للإسلاميين ضمن صفقة واضحة، بشرط عدم المساس بالرئاسة.
وحين لم يعودوا بحاجة للإسلاميين، تم دفع قيس سعيد إلى الواجهة، بدعم كامل من هذه القوى.


قيس سعيد: واجهة المشروع الجديد للدولة العميقة

انتُخب قيس سعيد بدعم من الإسلاميين أنفسهم في 2019، نتيجة لجهلهم السياسي وسذاجتهم الاستراتيجية.
لكنهم لم يعلموا أن صمام الأمان كان قد قرر منذ البداية:

  • تسليمه الرئاسة.

  • تمكينه من تغيير الدستور.

  • تهيئة الظروف للانقلاب على المؤسسات.

وهكذا حصل، ومعه بدأ مشروع جديد: تفكيك كامل لكل ما تبقى من حياة سياسية ومدنية في تونس.


تدمير منهجي لمؤسسات الدولة: المهمات الحقيقية لقيس سعيد

صمام الأمان الذي أوصل قيس سعيد إلى السلطة، لم يفعل ذلك حبًا في شخصه أو نزولًا عند إرادة الشعب، بل لأنه كان الرجل المناسب لتنفيذ مهمة محددة:

  1. منع الهجرة نحو أوروبا بأي ثمن.
  2. تحويل تونس إلى منطقة عازلة دون سيادة تُستخدم للترحيل الجماعي للمهاجرين.
  3. تدمير الحياة السياسية والمدنية في البلاد بالكامل.
  4. خلق مناخ رعب واستسلام، وتفكيك الدولة من الداخل.

لقد سُمح له بالانقلاب على البرلمان، وباعتقال المعارضين، وبتقييد الإعلام، وتجميد الأحزاب، وخنق الجمعيات، وتفكيك القضاء… بل وتحطيم صورة تونس بالكامل في الخارج.


من يدير فعلاً السلطة في تونس اليوم؟

صمام الأمان التونسي – المكون من ضباط كبار، ورجال أمن، ومسؤولين استخباراتيين – هو الحاكم الحقيقي.
وقيس سعيد ليس إلا واجهة، ينفذ المطلوب منه بدقة، مقابل استمرار الدعم والغطاء.

هذه القوى:

  • تعرف كل التفاصيل الداخلية والخارجية.

  • تُدير المشهد بموازنة دقيقة بين التعليمات الخارجية ومصالحها الداخلية.

  • تنتظر فقط اللحظة المناسبة للتخلي عن سعيد… حين ينتهي دوره.


لماذا لا يهتم صمام الأمان بإرادة الشعب؟

الجواب بسيط: لأن الشعب في الدول الضعيفة لا يُشكّل تهديدًا حقيقيًا طالما هو مُشتت، جاهل سياسيًا، تحركه العاطفة الدينية أو القومية.
في مثل هذه الحالة، تفضل الدولة العميقة إرضاء القوى الكبرى على إرضاء شعبها، لأن بقاءها في السلطة مرهون برضى الخارج أكثر من الداخل.

الضعيف يسعى للبقاء…
أما القوي فيسعى للهيمنة.

وهذه هي المعادلة التي تحكم كل تصرفات صمام الأمان في دول الجنوب.


تونس تغلي من الداخل… واللحظة الحاسمة تقترب

كل المؤشرات تقول إن الوضع الحالي لا يمكن أن يستمر:

  • الاقتصاد منهار

  • الخدمات مدمرة

  • الفساد منتشر

  • الوضع الأمني هش

  • الحريات معدومة

  • الغضب الشعبي يتصاعد

هذه العوامل تُنذر بانفجار قادم، لن تستطيع الدولة العميقة احتواؤه كما فعلت سابقًا.

صمام الأمان بدأ يبحث فعلاً عن بديل لقيس سعيد، ولكن بطريقة لا تفضح المشروع ولا تفتح المجال للفوضى… لذلك يحتاج إلى:

  • توقيت مناسب

  • بديل مقبول دوليًا

  • رواية جديدة تُسوّق داخليًا كشكل من “الإنقاذ الوطني”


فرصة النخبة التونسية: الميثاق الوطني الحضاري

هنا تظهر مسؤولية النخبة، المجتمع المدني، الشخصيات السياسية، والمثقفين الحقيقيين.
الفرصة الآن متاحة لبناء جبهة مدنية وطنية موحدة تُشكل البديل الديمقراطي.

لكن هذا لن يتحقق إلا إذا:

  • تجاوز الجميع خلافاتهم الإيديولوجية والشخصية

  • اجتمعوا حول ميثاق وطني مدني حضاري إنساني

  • قدّموا مشروعًا سياسيًا حقيقيًا يُقنع الشعب… ويُرغم الدولة العميقة على التخلي عن قيس سعيد


الثورة القادمة: ثورة في العقول

الثورة القادمة في تونس لن تكون ثورة جياع فقط، بل ثورة وعي وفكر.
الثورة التي تنقذ البلاد لن تنجح بالشعارات، بل برؤية جديدة تتجاوز تجربة العقد الماضي:

  • لا ديمقراطية بدون مؤسسات قوية.

  • لا حرية بدون مجتمع واعٍ.

  • لا ازدهار بدون مشروع اقتصادي مستقل.

  • ولا خلاص إلا بإرادة جماعية تتجاوز الغرائز والانتماءات الضيقة.

كما قال أبو القاسم الشابي:
“إذا الشعبُ يومًا أراد الحياة، فلا بدّ أن يستجيب القدر”
نعم، القدر يستجيب حين تكون الإرادة مبنية على الوعي لا العاطفة.


خاتمة: تونس قبل 2030… إلى أين؟

كل المؤشرات تقول إن تونس أمام مفترق طرق حاسم.
إما:

  • التمادي في الديكتاتورية والانهيار الكامل،
    أو

  • العودة إلى مسار حضاري عقلاني تقوده نخبة جديدة تُجبر صمام الأمان على التراجع.

الفرصة موجودة، والإرهاصات بدأت تظهر. المهم أن تخرج النخبة من صمتها، وأن يُصاغ مشروع وطني جامع، وهذه المرة ليس من أجل إسقاط نظام فقط، بل من أجل بناء دولة فعلية تستحقها تونس وشعبها.

تحيا تونس
ويحيا كل إنسان حر، حضاري، إنساني، تقدمي.

 

يمكنك القراءة أيضًا : حاتم سعيّد… الاسم الذي لا يُذكر: لماذا يخفي قيس شقيقه؟

Pin It on Pinterest