Contents

ما يحدث في سوريا اليوم: رؤية شخصية بعيون عقلانية

ما يحدث في سوريا أدرك أنه خطير جدًا، ولكن دعوني أشارككم وجهة نظري التي قد تثير الجدل، كما فعلت منذ أكثر من عشر سنوات.

لماذا أكتب عن سوريا اليوم؟

قررت أن أقدم هذا النص لأعطي فكرة عما يحدث في سوريا، وفي الوقت نفسه لأوضح وجهة نظري في الموضوع، ولماذا كنتُ وما زلتُ مع سقوط الأسد مهما كانت الطريقة أو الأسلوب أو العواقب. لأنه مهما كان الذي سيأتي بعد الأسد، فمن المؤكد أنه سيكون أقل خطورة من بقاء الأسد في السلطة. لم أقل هذا الكلام اليوم، بل قلته منذ أكثر من عشر سنوات، مع بداية الثورة السورية. وقد تعرضتُ حينها للسب، بل إن بعضهم قطع الحديث معي كليًا، واعتبرني إسلاميًا متخفيًا ولست ملحدًا، رغم أنني قلت بوضوح إنني ضد الإسلاميين مهما كانوا، حتى أولئك الذين يدّعون التحضر والإنسانية. بل أرفض الفكر الإسلامي من أساسه بشكل خاص، والفكر الديني بشكل عام.

السياسة ليست عاطفة: رؤية بعيدة المدى

في السياسة واتخاذ المواقف، لا ينبغي أن يقوم ذلك على أساس الكره أو الحب. فالمواقف السياسية لا تُتخذ بالعاطفة أولاً، وثانيًا، السياسي لا ينظر إلى الحاضر فقط، بل إلى المستقبل. السياسة رؤية بعيدة المدى وحسابات دقيقة، وأي خطأ قد يؤدي إلى كارثة. في ذلك الوقت، كنت في “البالتوك”، وقلت بكل صراحة ووضوح إن الأولوية الأولى هي إسقاط الأسد في أقرب وقت ممكن، وأن الإسلاميين – مهما كانوا (ولا أذكر أسماءهم هنا حتى لا أتعرض للمنع) – أقل خطرًا وأسهل إسقاطًا بعد ذلك مقارنة ببقاء الأسد. قلت هذا الكلام قبل سقوط العراق، وعند سقوطه، وبعده أيضًا. بل لدي مقال كتبته عام 2005 ذكرتُ فيه:
‘كان من الأفضل للرئيس الأمريكي بوش، بدلاً من غزو العراق، أن يفرض حصارًا على نظام الأسد في سوريا ويسعى لإسقاط الدولة العلوية هناك. فذلك كان سيكون أكثر فائدة بأضعاف المرات مقارنة بإسقاط العراق، الذي يعني فتح الطريق أمام إيران وتقوية مشروعها التوسعي وتمكينها من الوصول المباشر إلى البحر الأبيض المتوسط، مما يجعلها تشكل تهديدًا حقيقيًا على منطقة الشرق الأوسط بأكملها.’

أخطاء أمريكا في العراق وسوريا

صحيح أن صدام حسين احتل الكويت، لكن لو تُركت إيران لتعبر طريق العراق بحرية، فإن خطرها سيمتد ليهدد المنطقة برمتها. وبغض النظر عن أفعال صدام، فقد كان يشكل سدًا منيعًا وعقبة كبرى أمام المشروع الإيراني الخطير، الذي لا يهدد الشرق الأوسط فحسب، بل يتجاوز ذلك ليشكل خطرًا عالميًا. بناءً على ذلك، فإن قطع يد إيران في سوريا كان ينبغي أن يكون الأولوية القصوى للحد من هذا التوسع الإيراني المقلق. أما التعاون بين القوى الشيعية في العراق والولايات المتحدة في محاربة السنة، فهو أمر شديد الخطورة ويزيد من تعقيد المشهد السياسي في المنطقة. ما يحدث في العراق يرعبني حقًا، ولهذا السبب أطلق هذا النداء التحذيري لكل العقول الحرة حتى ترى ما تفعله أمريكا وحلفاؤها الآن، وما يخططون له ضد مستقبل البشرية. إذا كان العالم قد التزم الصمت عندما كانت أمريكا تغذي شبكة القاعدة في الماضي، فأنا اليوم أصرخ بأعلى صوتي محذرًا مما تفعله الولايات المتحدة، نتيجة جهلها بالإسلام والعالم الإسلامي.

حكومة بوش: أغبى إدارة في التاريخ

لم أرَ في حياتي حكومة أغبى من حكومة جورج دبليو بوش. إنه مخطئ بشدة إذا اعتقد أنه قادر على كسب ثقة الشيعة، حتى أولئك الذين هم في الحكومة. إنه ينسى شيئًا مهمًا جدًا: الشيعة أذكى ألف مرة مما يظهرون، وأكثر تنظيمًا من السنة، ويعرفون جيدًا كيف يعملون في الظل دون لفت الانتباه. لديهم خبرة طويلة في التخفي والعمل السري، والتاريخ يشهد على ذلك. لهذا السبب، أنصح الجميع بأن يفتحوا أعينهم جيدًا، وألا يتوقفوا أبدًا عن فضح المخططات الأمريكية، لأنها تشكل خطرًا حقيقيًا على مستقبل منطقتنا والعالم.

التاريخ يكرر نفسه: استغلال القوى المحلية في سوريا

ما يحدث في سوريا اليوم ليس بالأمر الجديد، بل يمكن القول إنه امتداد لتجارب سابقة في التاريخ السياسي والعسكري. فعلى سبيل المثال، شهدنا خلال الحرب الأفغانية ضد الاتحاد السوفيتي بروز جماعات مثل طالبان والقاعدة، التي استُغلت في سياقات تخدم مصالح دول كبرى. كما أن الحربين العالميتين الأولى والثانية شهدتا توظيف قوى محلية، بما في ذلك جماعات سنية، في خدمة مصالح تلك الدول. وفي القرن الثامن عشر، تم دعم الحركات الدينية في الجزيرة العربية، مثل الحركة الوهابية، بهدف إضعاف الدولة العثمانية. هل تعلم أنه منذ سقوط الخلافة العباسية، أصبحت القوى السنية طرفًا فاعلاً في صراعات إقليمية ودولية، سواء في إطار التحالف مع الدولة العثمانية التي سخرت بعض هذه القوى لتوسيع نفوذها في أوروبا، أو من خلال استغلالها لاحقًا في صراعات جيوسياسية كبرى؟

القوى السنية: أداة في يد الدول الكبرى

في العصر الحديث، استُخدمت الجماعات ذات التوجه السني في النزاعات الإقليمية مثل تقسيم الهند وشرق آسيا وفي الصين وفي الدول الإسلامية المنفصلة عن الاتحاد السوفيتي سابقًا مثل الشيشان، والحرب في البوسنة والهرسك، وفي مناطق غنية بالثروات في إفريقيا مثل نيجيريا والساحل الأفريقي، وكذلك خلال الثورات العربية. وفي كثير من الحالات، أصبحت هذه القوى أداة تخدم أجندات خارجية، سواء عبر استغلالها لإسقاط أنظمة معادية للغرب، أو كفزاعة لحكومات ديكتاتورية موالية للقوى الكبرى مثل في مصر وتونس. وحتى الآن، يستخدمون من طرف أجهزة المخابرات سواء كأفراد أو مجموعات في عمليات إرهابية لمصالح انتخابية أو تغيير في القوانين الأمنية. حتى الشيعة استعملوهم كما يريدون، وأكبر دليل غزة.

سقوط الأسد: اتفاق دولي وليس نصرًا عسكريًا

عند فهم السياق السياسي العميق للأحداث في سوريا، يتضح أن سقوط نظام الأسد لم يكن ليكون نتيجة نصر إلهي أو تفوق عسكري للمعارضة الإسلامية، بل هو أقرب إلى نتيجة اتفاق دولي بين مختلف الأطراف الفاعلة في الصراع. فالقرار كان مشتركًا بين عدة قوى مؤثرة، بما في ذلك الولايات المتحدة، أوروبا، دول الخليج، تركيا، روسيا، وإسرائيل، إلى جانب موافقة إيرانية وحتى ضمن ترتيبات معينة وافق عليها بشار الأسد نفسه. ما جرى في سوريا لم يكن انتصارًا مطلقًا لأحد الأطراف، بل كان جزءًا من خطة سياسية محكمة، لعبت فيها تركيا دورًا رئيسيًا، ونُفذت بمشاركة شخصيات سياسية وعسكرية، مثل أحمد الشرع، مع الاعتماد على عناصر سنية في الميدان، تم استغلالهم لتحقيق أهداف محددة. الاستعانة بجماعات أو فئات معينة لتحقيق مصالح سياسية هو أمر تكرر في التاريخ، وهو ما يتطلب وعيًا عميقًا لفهم طبيعة هذه التحالفات وكيف تُدار من وراء الكواليس. إذًا، لا هو نصر إلهي، ولا تفوق عسكري للمعارضة، ولا هم يحزنون، بل اتفاق وتوافق بين جميع الأطراف، حيث لكل طرف مصلحة في ذلك، إلا الشعب السوري طبعًا.

لماذا فرح البعض بسقوط الأسد؟

صحيح أن الكثيرين فرحوا بنهاية حكم بشار الأسد، وليس بالضرورة لأن النظام علوي، بل لأن وصول العلويين إلى السلطة جاء في سياق دعم غربي، وخاصة فرنسي، كان يهدف إلى حماية الطائفة العلوية وضمان بعض المصالح الغربية في المنطقة. وخلال نصف قرن تقريبًا، أدى النظام دوره في هذا الإطار بفعالية، رغم التداخلات الإيرانية التي حاولت التأثير على موازين القوى. كما أن نظام الأسد والمقربين منه كانوا يمثلون مصدر معلومات موثوقًا به فيما يتعلق بالتحركات على الأرض في سوريا ولبنان، وهو ما جعلهم يحتفظون بدورهم الاستباقي لما تخطط له إيران والمقاومة الفلسطينية. وليس لأن نظامه ديكتاتوري؛ فوالده من قبله كان ديكتاتورًا وارتكب مجازر دون أن يُدان بشكل جدي من القوى الدولية. في الواقع، معظم حكام الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يتسمون بالديكتاتورية بدرجات متفاوتة.

شعار “الديكتاتورية”: أداة الغرب لتغيير الأنظمة

شعار “الديكتاتورية” غالبًا ما يُرفع من قبل الدول الغربية عندما ترغب في إسقاط حاكم لم يعد يخدم مصالحها، وفقط عندما تكون لديها خطة بديلة واضحة لضمان استمرار نفوذها أو مصالحها في تلك المنطقة. والتاريخ شاهد على ذلك؛ فلا يبقى في الحكم إلا من يحقق مصالح القوى الكبرى. ومن دون تلك المصالح، يُزاح الحاكم من منصبه مهما كانت قوته، وفي التوقيت الذي تراه تلك القوى مناسبًا وبالطريقة التي تخدم أهدافها. منطقتنا أشبه برقعة شطرنج، ونحن بمثابة البيادق التي تُحرَّك وفق إرادتهم. وكما يُقال بالتونسية: “صحّ ليهم”، فقد أُتيحت لهم الفرصة الكاملة للتحكم بمصائرنا. وليس غريبًا أن نجد أنفسنا في هذا الوضع، لأننا – للأسف – تصرفنا أحيانًا كأننا مجرد أدوات بلا وعي ولا إرادة، مما جعلنا لقمة سائغة في أيدي من يجيدون إدارة اللعبة.

الفجوة بين الغرب ونحن: لماذا نتأخر؟

الغرب، والقوى العظمى التي تتحكم في العالم، قطعت أشواطًا طويلة تجاوزتنا بملايين السنين (مجازًا)، بينما نحن ما زلنا نراوح مكاننا، وكأننا خارج إطار الزمن والتاريخ والجغرافيا. هذه ليست مجرد مبالغة، بل هي حقيقة وواقع ملموس؛ فالفجوة بيننا وبينهم أصبحت شاسعة إلى درجة تجعل اللحاق بهم بالطرق التقليدية أمرًا شبه مستحيل. قد يتساءل البعض: لماذا أقول هذا الكلام؟ وما هو دليلي؟ الجواب واضح؛ الغرب نجح في الوصول إلى منهجية علمية دقيقة تقوده نحو المعرفة الحقيقية، بل المعرفة الأزلية كما يمكن وصفها. الأمر بالنسبة لهم أشبه بسباق واضح المعالم؛ يعرفون الطريق، يدركون الهدف، ويمتلكون الأدوات اللازمة للوصول إليه. أما نحن، فلا نعرف وجهتنا، ولا نملك خارطة الطريق، وأدواتنا غير كافية لتحقيق التقدم. نعيش في دائرة من التخبط بين الأحلام والأوهام، نعتمد على انتظار المعجزات، وكما يقول الدعاء: لا نملك إلا الدعاء، رأس مالنا الرجاء، وسلاحنا البكاء، افعل بنا ما تشاء، متناسين أن التقدم يحتاج إلى عمل ممنهج ورؤية واضحة، وليس إلى مجرد تمنٍ أو انتظار رحمة السماء.

لماذا تفوق الغرب؟ دروس من التاريخ

القوى العظمى درست التاريخ دراسة علمية دقيقة، ففهمت كيف تنهض الحضارات وكيف تنهار. تعلمت من التجارب، وحرصت على تطوير نفسها باستمرار، تخطط لمستقبلها بوعي ودقة. هذه القوى طورت التكنولوجيا حتى وصلت إلى الفضاء، وامتلكت أقوى أنواع الأسلحة، وأصبحت كل تحركاتها محسوبة وفق قواعد رياضية ومنطقية قائمة على العلم والملاحظة والتجربة. لقد طورت صناعات متقدمة، وحققت تفوقًا علميًا هائلًا، بعضها لا يزال في طي الكتمان ولم يُكشف لبقية العالم. هذا التفوق مكّنها من احتكار القوة والموارد، ما جعلها تمتلك جميع مقومات الهيمنة والبقاء. ما وصلت إليه هذه القوى يجعل إسقاطها أمرًا شبه مستحيل، ولا يمكن تحقيقه إلا بتدخل قوة تفوقها بمراحل – وهو سيناريو أقرب إلى الخيال العلمي منه إلى الواقع. والفكرة الأقرب هي أن تتعرض الأرض لغزو فضائي من كائنات فضائية. في ذلك السيناريو، قد يتحول العمل الانتحاري والجهادي للمسلمين إلى عمل بطولي، ويتحول الإسلاميون فجأة إلى “أبطال البشرية” في نظر الغرب، ما عليهم إلا إقناعهم بفتوى تُصوّر الكائنات الفضائية على أنهم جنود المسيح الدجال أو جنود إبليس.

الحل الواقعي للتقدم: ثلاث خطوات أساسية

الحل الوحيد المنطقي والواقعي يتطلب تغييرًا جذريًا في طريقة التفكير والتعامل مع الواقع. يمكن تلخيصه في ثلاث نقاط رئيسية:
أولاً: التخلي عن فكرة “هزيمة الغرب” أو “تدميره. هذه الفكرة ليست فقط مستحيلة من الناحية الواقعية نظرًا للفجوة الكبيرة بيننا وبينهم، بل هي أيضًا فكرة عدائية وغير بناءة. محاولة تدمير الغرب لن تؤدي إلا إلى مزيد من الكراهية لنا. أفهم الغرب جيدًا؛ لو كنت مكانه لفعلت أكثر مما يفعل بنا. تصور موقفك لو علمت أن الآخر يريد فناءك؛ عندما اطلع الغرب على الكتب الإسلامية، أصابته صدمة جعلته يفعل المستحيل لمحونا من فوق هذه الأرض. عندما نفكر تفكيرًا إسلاميًا، يجعل الغرب ينظر إلينا كتهديد دائم، فيزيد من محاولاته لإضعافنا واستغلالنا دون أن يفكر أبدًا في التعامل معنا.
ثانيًا: رفض عقلية “الهدم دون بناء. لا يمكن السعي إلى إسقاط قوة كبرى دون وجود بديل قوي قادر على قيادة العالم بطريقة أفضل. فكرة “علينا وعلى أعدائنا” ليست سوى وصفة للفوضى والدمار، ولن تحقق أي تقدم حقيقي. نريد أن ندمر الحضارة والتطور لنضع مكانهما التخلف والخراب، هل هذا يعقل؟ من يقبل ذلك؟ لا أحد، ولهذا نعتبر بالنسبة للعالم مصدر خراب يجب على العالم أن يقضي علينا ويزيلنا.
ثالثًا: السعي إلى التعاون بدل المواجهة. من الحكمة أن ندرك حجمَنا الحقيقي، ونركز على ما يمكننا تحقيقه بواقعية. يمكننا أن نكون شركاء في التقدم العلمي والاقتصادي، نضيف إلى ما وصل إليه الغرب بدلاً من محاولة تقويضه. هذه الشراكة ليست خضوعًا، بل فرصة لإثبات قدرتنا على الإبداع والإسهام في رفاهية البشرية. لهذه الأسباب، يجب علينا التخلي عن فكرة الانتقام والتدمير، وكذلك عن وهم التغلب على الغرب من خلال المواجهة العدائية. بدلاً من ذلك، ينبغي أن نركز على نهج أكثر واقعية وبناءً، يقوم على السعي لأن نكون شركاء للغرب لا منافسين له.

كيف نكون مقبولين حضاريًا؟ خطوات عملية

فكيف نتخلى عن هذه الأفكار لتقبلنا الحضارة؟
أولاً: التخلي عن الدين. عندما أقول الدين، أقصد قوانينه وأحكامه وأفكاره، ونحرر أنفسنا من فكرة الدين المقدس والأفكار الجاهلية، ومن فكرة رب وجنة ونار تقليدية، والتفكير فيما بعد الموت، والعودة إلى الواقع. نعم، يجب أن نتبنى البراغماتية والواقع ونتخلى عن الخيال والأحلام الفارغة وكل ما يتعلق بهذه الأمور الميتافيزيقية. هذا فقط يُرعب من هم في الغرب ويجعلهم يكرهوننا ويريدون تدميرنا. تصور شعوبنا تخرج من الدين أفواجًا ولم تعد مهتمة به، حتى وإن بقي الدين في الدرجة الثانية، ولكن الأهم ألا يكون الشيء الأساسي بالنسبة لنا، ولا دخل له في بناء الدول والمجتمع؛ أمر شخصي ليس له أي دور في الحياة اليومية، مجرد عبادة وروحانيات لا أكثر ولا أقل على أكثر تقدير.
ثانيًا: التخلي عن الفكر العنصري والقومي. يجب أن نتخلى عن الفكر العنصري والقومي والعشائري والوطني التقليدي، وفكرة “نحن وهم”. يجب أن نفتح بلداننا لتاريخها وجمالها ومناظرها الطبيعية، ولأكلها، ولكل ما فيها من مقومات جمالية للعالم من أجل السياحة والإقامة والاستثمار. علينا أن نتخلى عن الفكر القومي البغيض والتشبث الأعمى بالتقاليد والعادات، مع الحفاظ على خصائصنا الاجتماعية، وكرمنا، وحبنا للمرح والفرح. يجب أن نبني بلداننا لتكون أماكن منفتحة كليًا.
ثالثًا: تبني السلم والإنسانية. نتحول إلى دول سلمية غير حربية، ونبتعد عن فكر السلاح والتسلح، ونرفض كليًا الحروب وندعو إلى السلم والأمن بين البشر. علينا أن نكون سفراء للسلام والحب بين البشرية، وندعو إلى الإنسانية، والتنوع، والتعايش، والمودة. كما يجب أن نعمل على بث الوعي وتطوير مناهج التعليم والتربية التي تقوم على احترام الآخر مهما كان، واحترام الاختلاف العرقي والجنسي وغيره، إضافة إلى احترام الطبيعة والحيوان والاعتناء بهما في هذا المجال.

لماذا يرفضنا الغرب؟ تجربة شخصية

هذه النقاط الثلاث باختصار، وحدها تجعل من هم في الغرب يريدون أن نبقى كما نحن أو يدمروننا، لا يستطيعون فعل شيء. بالعكس، سوف يقبلوننا كشريك لهم، بل سنصبح نحن وهم واحدًا. سنوحد البشرية حولنا مع الحفاظ على التنوع وخصوصية كل فرد فينا. سنشرك الجميع في الإنسانية، والمنافسة ستكون في تطور البشرية وليس في تخلفها. هذا الطريق هو الوحيد إذا عملنا عليه. وتأكد أنه في البداية لن يسعدهم ذلك على الأقل، لأنهم لا يثقون بنا وهناك نوع من الكراهية عند بعضهم تجاهنا. عندما تركت الإسلام وتحررت من قيوده قبل ربع قرن، انبهرت بالغرب وصدقت الكذبة الكبيرة أن الغرب إنساني وحضاري وأخلاقي، وأنه يحب مصلحة الشعوب ونشر الحضارة الإنسانية. صحيح أن هذه الأمور موجودة في الغرب، ولكن فقط للغربيين ولحيوانات الغربيين، أما بقية العالم فلا حقوق إنسان ولا حقوق حيوان ولا مساواة ولا حضارة ولا أمن. هذه حقيقة اكتشفتها بعد عدة سنوات، عندما تعرضت للمنع والمضايقة والإغراء والتهديد، لكي أكون مجرد أداة في يدهم أؤدي ما يريدون.

رفض الغرب لي: لماذا أنا أخطر من الإسلاميين؟

أنا الذي تخلصت من الإسلام، أكبر مستعبد للعقول والبشر، لن أقبل أن أكون عبدًا لشيء آخر مهما كان، حتى وإن كان الغرب نفسه وما يملكه من تقدم. كنت أتصور أنهم يحبون تقدم البشرية وسيشعرون بالفرح إذا وعى شعبي وأهلي، لكنني وجدت نفسي عدوًا لهم أكثر من المسلم المتعصب نفسه. وجدت نفسي مرفوضًا منهم كليًا، وطبعًا لا أتحدث عن الجميع، بل عمن لديهم القدرة على مساعدتي. حتى أن أحدهم قال لي، ولا أنسى ذلك، إنني أخطر من الإسلاميين، بل يفضلون الإسلاميين عليّ لأنهم يمكن أن يجدوا المبرر لمحاربتهم، بينما أنا لا يجدون لي أي مبرر. عندما فهمت ذلك جيدًا ومنذ ذلك الحين، عملت بكل جهد وعرضت الحجج، وواجهت المنع والإهمال بكل الطرق. رغم الإحباط في العديد من المرات حيث أردت أن أتوقف، لكن ضميري الشمال أفريقي والشرقي، هذه الروح الحية من قلب العالم، تجعلني أتراجع وأعود وأقول: “واحد فقط يستفيق خير لي مما طلعت عليه الشمس أو غربت”. وعندما أقول “يستفيق” أقصد أن يكون واعيًا بذاته، يعرف نفسه، ويعرف ما يجب أن يفعل. أي أن يصبح منتبهًا وواعيًا، يفكر ولا يتبع كالبهيمة. هذا هو المهم، ليس بالضرورة أن يعتقد فيما أعتقد أو أن يكون معي، المهم أن يتحرر كفرد. هذا هو الأهم.

سوريا: جرح الشرق الأوسط النازف

نعود لموضوع سوريا الذي في القلب، وقطعة من وطني ينزف مثل أي بقعة فيه. كل شبر من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا فيه جرح يدمي، دموعًا ودمًا كل يوم. لا تغرب الشمس ولا تطلع إلا على الأحزان، كل فرحة لا تدوم وتتبعها غصة. الشعوب تتقدم ونحن نتأخر، كل شيء يصل للقمة يصعد إلى فوق، ونحن وصلنا للحضيض وما زلنا نحفر قبورنا. نحن الذين تاريخنا كله أحداث مهما كانت، ولكن كلها حركة وحياة، من بغداد إلى مراكش، من رائحة التوابل إلى رائحة البخور والعطور، من غناء ورقص، من شعر وغناء. أين كل ذلك اليوم؟ سواء رائحة القنابل والخراب في الطرقات، من وجه مرح إلى وجه عابس مظلم قبيح، من جمال الإناث إلى أكياس للزبالة. لا أريد أن أطيل في الوصف لأن ذلك يؤلمني، ولكن أقول: عندما سقط بشار الأسد، هناك من فرح وهناك من غضب. ولكن هل تساءل كل واحد منكم لماذا فرح؟ ولماذا غضب؟ أكيد، كل واحد حسب موقفه وحسب منفعته ومضرته من سقوط الأسد. ولا ألوم من غضب ولا ألوم من فرح، لأن فرحنا وغضبنا لن يحلا المشكلة. فقط نواصل أن نكون بيادق في يد من يتحكم فينا. ولكن نفرح عندما نكون بين البيادق الرابحة وإن كنا مجرد بيادق.

لماذا فرحت أو غضبت من سقوط الأسد؟

أترككم تسألون السؤال لأنفسكم: لماذا فرحتم أو غضبتم عندما سقط الأسد؟ وأعلم ما هو مؤكد: من غضب، غضبه كان لقدوم الإسلاميين مكانه، وليس غضبًا لأن الأسد سقط، لأن الحقيقة أن الجميع فرح بسقوط الأسد إلا القلة القليلة التي لها مصلحة في بقائه. أعطيكم لماذا فرحت. رغم أن فرحتي سببت لي كثيرًا من الكره والسب والاتهامات، ولكن ذلك لا يهمني. أصبحت محصنًا من سبهم وشتمهم ولعنهم. وكل مرة أُتهم بأنني مع الإسلاميين وأنني ملحد مزيف، وهذا رأي كثير من الملحدين للأسف. لأن أغلبهم يعتبرني لست منهم، لست من هو موالٍ للغرب كليًا ويخدم تحت أجندة غربية إنجيلية أو غيرها. وهذا يقع أيضًا لأي حر لا يدخل تحت قبتهم. ولكن كما تعلمون، كل ذلك لا يهمني أصلاً، لأن ما أقوم به هو حب للإنسانية أولاً، لقلب العالم الذي أريده ضمن هذه الإنسانية.

توقعاتي لسقوط الأسد: منذ 7 أكتوبر

طبعًا، كان سقوط الأسد متوقعًا بالنسبة لي منذ أحداث 7 أكتوبر. لقد قلت دائمًا أن أهم شيء هو سقوط الأسد. لم أكن أعرف كيف ومتى سيحدث ذلك، لكنني كنت متأكدًا أن هناك خطة لذلك. ومع ذلك، لم أكن أتوقع أنه سيتم مرة أخرى استخدام الإسلاميين. بالطبع، هنا أقصد “الإسلاميين” لكي لا أذكر الأمور كما هي. كنت أتصور أن الغرب قد ملَّ من استخدامهم، خاصة بعد ما يُطلق عليه “الثورات العربية”، وكان قد ضاق ذرعًا بهم. لكنني تفاجأت مثلكم أن “عاهرة أخرى”، وهي من كبار العاهرات للغرب، هي التي كُلفت بأن تكون شيخة لقيادة العاهرات السوريات، على رأسهم أحمد الشرع، لإسقاط الأسد. لكن كما تعلمون، أنا كنت أريد سقوط الأسد مهما كان الثمن منذ قرابة عشرين سنة، لذا كانت فرحتي كبيرة ولا أخفي عليكم ذلك.

الأسد سقط: حان وقت الحديث عن المستقبل

الآن، الأسد سقط، فلنتوقف عن الحديث عنه بعد اليوم. طويت ورقته من تاريخ سوريا إلى الأبد. الحديث الآن عن من جاء مكانه. الجواب الذي قلته من أول يوم: أحمد الشرع في شخصه أعجبني، لأنه أتقن دوره جيدًا وأعتقد أنه قادر على قيادة سوريا. وأعلم أن أحمد الشرع تلميذ نجيب للغرب، ولا أتصور أنه سينقلب عليهم مثل الآخرين، لأن رقبته في يد تركيا من جهة، ومن جهة أخرى هو ذكي جدًا وفطن ويعرف كيف يلعب اللعبة ويمارس دوره على أكمل وجه. إلى الآن، هو يؤدي دوره بشكل جيد. أخاف عليه من الذين حوله ولا أخاف أن ينقلب على الغرب الذي عينه ليقود سوريا. لا تنسوا أن أحمد الشرع يقود “ذئابًا سائبة مكلوبة”، وهو كان منهم، أي يعرفهم جيدًا ويعرف كيف يفكرون ويعرف كيف يتعامل معهم.

دعم أحمد الشرع: لماذا أعطيه فرصة؟

لهذا أقول: أعطوه فرصة للعمل. لا تضيفوا عليه أكثر مما هو فيه، وعليه، مهمته شبه مستحيلة وقد يتم التخلص منه في أي وقت من طرف من حوله أو من طرف من وضعه، فهو في موقف صعب جدًا. أدرك أن سوريا في خطر، لا أنكر ذلك، وأعلم أنه ستقع الكثير من التجاوزات والجرائم والمجازر، وأن سوريا قد تتجه نحو التقسيم. وأدرك أن إسرائيل قد تسيطر على الجنوب كليًا، والشرع لن يستطيع أن يقول كلمة في هذا الشأن، وأعلم أن أمريكا ستثبت قدمها في شرق سوريا وروسيا أيضًا، خاصة بعد التوافق بين أمريكا وروسيا. وأعرف أن منطقة الساحل قد تطالب بالانفصال.

مستقبل سوريا: بين الغموض والأمل

مستقبل سوريا غامض إلى حد الآن، ولا ندري ما يخطط له الغرب، ولكن حسب معلوماتي وحسب إحساسي، فإن الدول العظمى تريد بالفعل نجاح التجربة السورية، وهذا هو ما يطمئنني أكثر. لأنني أعلم أنهم يعرفون كيف يلعبون، وهمهم الأول الآن هو إيران وبقية فلولها في المنطقة، خاصة في اليمن والعراق. الغرب يجب أن يتصالح مع روسيا ليتمكن من وضع إيران في مكانها الحقيقي. ما حصل بعد 7 أكتوبر جعل الغرب يفكر بجدية بحلول فعلية للمنطقة. صحيح أن هناك طرفًا متطرفًا لا يريد حلولاً ويريد دمار الشمال، ولكن هناك من الغرب من يريد حلولاً إنسانية حقيقية، وأحمد الشرع يعلم ذلك وهذه فرصته لينقذ سوريا ويجعلها المستفيدة وتكون نموذجًا للحرية والإنسانية.

تحديات سوريا الجديدة: هل يمكن أن تكون نموذجًا؟

أدرك أن ذلك صعب مع شعوب مثل شعوبنا، ولكن عندي أمل قوي رغم ما تعيشه سوريا الآن. هناك من في الغرب يريد أن يجعل من سوريا أفغانستان جديدة لمواجهة الإيرانيين، وأدرك أن هناك من يريد صبغ سوريا بالنعرة الأموية التي ستواجه الغزو الفارسي العباسي، ولكن أرى في كلام الشرع وتصرفاته أنه متفطن لذلك. لذلك فرحت، ولهذا السبب أدعم أحمد الشرع، لكن لا يعني هذا أنني أدعم الكلاب الذين حوله، ولا يعني ذلك أني مع حكم إسلامي مهما كان، بل آمل أن تسير سوريا نحو الطريق الصحيح وتهتم بنفسها ومشاكلها ولا تدخل في اللعبة الإقليمية التي تريد بعض الأطراف أن تدخل فيها سوريا.

موقفي من الأحداث الأخيرة في سوريا

إذا ما يحدث في سوريا أندد به، وما حصل في الساحل أندد به، لا نقاش في ذلك ولا شك. ولكنني أواصل دعم التجربة السورية إلى الآخر، رغم السجن الكبير الذي أصبح مفتوح السقف بعد أن كان مغلقًا. أرجو أن تكون الفكرة قد وصلت. وسأعود إلى سوريا بالتفصيل عندما أصل للحديث عن الشرق الأوسط. أرجو أن يكون هذا المقال قد أجاب على معظم أسئلتكم وعرفتم موقفي مما حصل في سوريا.

 

 

يمكنك القراءة أيضًا : بؤر الصراع والتغيرات العالمية

Pin It on Pinterest