اللامبالاة في العرفان، وولادة البشرية

أليس جميعنا في حالة ترقّب منذ ولادتنا وحتى وفاتنا؟

نحن في صالة انتظار مستمرة، نتحرك فيها دون أن نشعر.

فلا تتسرع، ولا تُثقل كاهلك بالهموم. دع الأمور تسير كما يسير النهر، بهدوء وبدون مقاومة.

وجودك، بغض النظر عن مدّته، ومهما تحدثت أو تصرفت أو تفكرت، في النهاية هو محاكاة لما سيحدث في المستقبل.

نعم، وجودك — وكل ما يحيط بك — مجرد اختبار وتجربة.

فلنبدأ إذًا مغامرة الغوص في حالة “اللامبالاة”، حيث يسبق التفكير النقل، وحيث تكون الأسئلة أكثر أهمية من الإجابات…


طريق المعرفة: رحلة شاقة

طريق المعرفة شاق ومتعب، وهنيئًا لأولئك الذين ينعمون بجهلهم، كما قال أبو الطيب المتنبي:

ذو العقل يشقى في النعيم بعقلهِ
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ

من تذوّق ثمرة المعرفة الممنوعة، وقع في فخها. لا عودة إلى الوراء. ولهذا أقول لنفسي ولكم: عظم الله أجركم، فما علينا سوى الصبر حتى نغادر هذه الحياة.


تسلسل البحث العرفاني

كان من المفترض أن أتحدث عن “الربوبية”، لكنني آثرت الالتزام بالتسلسل الذي سلكته في مذكرتي “الإله الصفر المطلق”، والتي توثق رحلة طويلة من التأمل في تطور مفهوم الإله عند الإنسان.

بدأت هذه الرحلة بـ”اللامبالاة”، ثم انتقلت إلى الربوبية، ثم الإلحاد كذروة هذا التطور.

فقل لي: بماذا تؤمن؟ أُخبرك من أي عصر جاءت أفكارك:

  • السلفي: يعيش في اللامبالاة.
  • المعاصر: يؤمن برب.
  • التقدمي: هو الملحد، الساعي نحو الحقيقة.

ولهذا يعاني الملحد، لأنه يسبق زمانه.


اللامبالاة: أصل الوجود البشري

اللامبالاة ليست انحرافًا، بل كانت هي البداية.

إنها ليست لا مبالاة بمعناها السلبي، بل حالة من الكمون. الاستعداد قبل الحركة. الصمت الذي يسبق الانفجار.

العرفان يُقسم حالات الوعي على النحو التالي:

  1. الفطرة الآلية (الحيادية/الساكنة): من الجماد حتى الحيوان الأعلى.
  2. اللامبالاة (الكمون): استعداد داخلي غير مفعل بعد.
  3. المبالاة: الانخراط في الحياة والتفاعل العقلي والنفسي والمادي.

البشر وحدهم من استطاعوا تجاوز اللامبالاة إلى المبالاة. الكائنات الأخرى تبقى في فطرتها، أما الإنسان فقادر على التحول.

لكن اللامبالاة ليست شاملة، بل نسبية. فقد يكون الإنسان مباليًا في شيء وغير مبالٍ في آخر.

خاصة عندما يتعلق الأمر بمفاهيم كالإله والرب، نُسمي هذا النوع بـ”اللامبالاة العرفانية”.

اليوم، معظم البشر أصبحوا مبالين بالعالم المادي. القلة فقط هم من تجاوزوا ذلك إلى العرفان.


دور الأنثى في نشأة العرفان

النخبة الأولى في درب العرفان كانت من النساء.

بفضل عزلتهن في الكهوف، مع الأطفال والولادة، نشأ فيهن وعي صامت متأمل.

في البداية، كانت المرأة تُعبد كإلهة. مصدر الحياة. بينما كان الرجل خادمًا لها، حارسًا لها.

لكن حين أدرك الإنسان دور الذكر في عملية الإنجاب، تغيّرت المعادلة. سقطت مركزية الأنثى، وتحوّل النظام إلى ذكوري سلطوي.

أصبحت المرأة مجرد “وعاء” للإنجاب. لكن العرفان لم ينسَ أنها زرعت البذرة الأولى للوعي.


مستقبل الإنسان: ما بعد الجندر

يتجه الإنسان إلى تجاوز الثنائية الجندرية (ذكر وأنثى).

في المستقبل، قد يُصبح الجندر اختيارًا، لا قيدًا بيولوجيًا. سيُقاس الإنسان بذاته، لا بجنسه.

هذا التوجه بدأ يُقبل تدريجيًا، وسيُصبح مألوفًا وعاديًا، لينتهي الأمر بتحرّر الإنسان من قيد الجندر.

سيتكامل الذكر والأنثى داخل الإنسان الكامل، ليحمل معنى “الإله” و”الرب” في داخله، لا كرمزين للأب والأم، بل كوحدة جوهرية.


اللامبالاة: حالة بدائية في أصلها

كون اللامبالاة حالة بدائية، فهذا لا يجعلها سيئة بالضرورة. لكنها تشير إلى مرحلة سابقة من التطور.

الإنسان غير المبالي يشبه الكائن البدائي. أما الإنسان المنتبه، الجريء في قراراته، الساعي نحو الفهم، فهو الأكثر تطورًا.

من هنا يظهر الفكر اللاأدري عند عامة الناس. لكنه عند العارفين مجرد وهم.

العارف يدرك أن اللامبالاة مرحلة، لكنه لا يخلطها باللاأدرية، التي يراها كذبًا وضياعًا.


المراحل الثلاث لتطور الإنسان في العرفان

المرحلة الأولى: ما قبل البشر (قبل آدم الأول)

المرحلة التي يُسميها العارفون بـ”قبل آدم الأول” هي مرحلة الحيوانات العليا.

كائنات في حالة “الفطرة الآلية”، لم يظهر فيها جوهر الإنسان بعد.

القرآن، في قوله: ﴿إني جاعل في الأرض خليفة﴾، يشير إلى هذه المرحلة. الملائكة اعترضوا على هذا الخليفة لأنه “يفسد ويسفك الدماء”، أي صفات الحيوان، لا الإنسان.

لكن الرب كان يرى في بعضهم قابلية للتحول. من الفطرة إلى اللامبالاة، ثم إلى المبالاة.

هذا النوع هو ما مهد لظهور البشر.

المرحلة الثانية: الخلق — من الحيوان إلى الإنسان

وقعت طفرة جينية، فظهر نوع جديد.

مختلف في الجوهر، ليس حيوانًا، لكنه ليس بشرًا كاملًا بعد. كائن انتقالي.

هذا هو “الجنين البشري” الذي سكن أفريقيا، وكان بداية ما نسميه اليوم “الإنسان الماهر”.

لم تكن لديه لغة أو أدوات متطورة، لكنه كان يمشي منتصبًا، ويعيش في كهوف.

“لوسي”، المكتشفة في إثيوبيا، نموذج لهذا النوع.

المرحلة الثالثة: الإنسان الماهر — الطفولة والجنة

بداية الولادة البشرية، بحسب العرفان.

هنا ظهر الإنسان الذي تعلم الأسماء، صنع الأدوات، واكتشف النار.

وفق الرمزية العرفانية، هذه المرحلة هي “الجنة”، وأفريقيا كانت هي الجنة.

الإنسان كان حرًا في كل شيء، ما عدا الأكل من شجرة المعرفة.

لكن الأكل من تلك الشجرة، كما في الرمز، يعني بداية الخروج من الجنة، من البراءة، إلى عالم المادة والموت.

هكذا بدأ الإنسان رحلته خارج أفريقيا، وبدأت مرحلة جديدة في الوعي.


الخاتمة

اللامبالاة لم تكن يومًا ضعفًا في الوعي، بل كانت لحظة الصمت التي سبقت الانفجار الكوني في عقل الإنسان.

هي الأصل الذي منه خرجت أولى الأسئلة، وأول فضول، وأول تمرد.

هي الحاضنة التي مهدت لولادة الإنسان الكامل، الباحث، المتأمل، والعارف.

وحين نفهم أن اللامبالاة ليست نهاية، بل بداية، حينها فقط نستطيع أن نستمر في الرحلة.

رحلة نحو الذات، نحو المعرفة، نحو التحرر.

ولأننا لا نملك رفاهية التوقف، فإن كل خطوة في هذا الدرب، حتى وإن كانت محفوفة بالشك، تقرّبنا أكثر من الحقيقة.

فامضِ في دربك… ولو وحدك.

 

يمكنك القراءة أيضًا : الحالة التي تسبق هذا الوجود

Pin It on Pinterest