المرآة
بعد كل هذه السّنوات من الإيمان و التّأمل ألخّص تجربتي بهذه الأقصوصة الدراميّة: في متاهة الحياة سرت كأيّ إنسانٍ تملكه فضوله ليجد ربّاً سمع عن وجوده. دفعتني قوّة إرادتي لأجد دلالاتٍ تبعتها وأشخاصٍ قابلتهم ساعدوني للوصول إلى غايتي. في بحثي هذا وجدت نفسي ضمن جماعةٍ مشتركين بنفس الهدف واقفين أمام قصرٍ بحديقةٍ جمّاء وجمالٍ يسرق الألباب، دنوت أكثر من حرّاسه لأتأكّد عن ساكن هذا القصر المهيب، فجاءني الجّواب بصرامة التّأكيد : “الرّب و عبيده”.
قيل لي أنّ قلّة فقط يمكنها الدّخول، وبكلّ رغبةٍ لأكون واحداً من عبيده رحت أصلي، أتوسّل، أطلب و أدرس إلى أن فُتحت البوابة أمامي ضمن الّذين عبروا إلى الحديقة، وفيها تابعت خطواتي وفق المسارات الّتي كشفوها لي إلى أن وصلت لبابٍ من بهاء تكوينه وهيبة جماله خُرت ساجداً متسائلاً “أين الرّب؟ كيف يمكنني مقابلته؟” وجاءني ردّ الحارس :” لتتمكّن من العبور، عليك أن تكون خادماً مقرباً من الرّب”…هكذا رحت أزيد من علومي، أوصال دعواتي، تأملاتي وصلواتي لأكون من المقربين إليه. حتّى جاء اليوم الّذي سُمح لي مع قلّةٍ قليلة ساروا معي و تشرّفنا بالانضمام إلى عبيده العظماء.
رُفع الحجاب الأوّل كاشفاً عن نورٍ أبهر عيوني الّتي سقطت مغلقةً على نفسها من شدّة توهّجه وشعرت فجأةً أنّ هناك من تابع نحو الحجاب الثّاني و منهم من بقي مكتفياً عند أوّل حجاب. كم كانت رغبتي كبيرة بالاستمرار مع من واصلوا المسير! لكنّي كنت منهكاً من شدّة الأنوار الّتي منعتني. هناك واظبت التّأمل والصّلوات إلى أن اعتادت عيوني على عظمة النّور و رحت أتابع مرحلةً تلو الأخرى واصلاً مع اثنين فقط إلى آخر حجاب مفروضٍ أمام مقابلة الرّب…
وكُشف الحجاب الأخير عن وجهه لحظتها تكوّمت ومن معي مبهورين بروعة بهائه… سنينٌ طويلةٌ قضيتها بمحاولة استيعاب هذا الإشراق الّذي لا يعرف ثباتاً والّذي لم أخبره يوماً إلى أن جاءت السّاعة الّتي حثّتني بها نفسي لأرفع رأسي محدّقاً في وجهه لأنصعق مدهوشاً بملامح مألوفةٍ كنت قد عرفتها، و حدّقت أكثر بينما استمر من كانوا معي ساجدين أمام حضوره.
بلحظة صفاءٍ كُشفت أمامي جميع المسارات الّتي اضطررت لأتبعها وكل الطّرق الّتي مشيتها للوصول إليه؛ عاينت كلّ الحياة الّتي مضيت فيها سابقاً بكل خطواتها، مراحلها ومكوّناتها. رأيت انعكاس كل ما خبرته من حياةٍ يوميّة للبشر، النّجوم، السّماء، البحار، الأرض… والطبيعة بكل بتغيراتها وكل ما هو موجود في هذا العالم كان معروضاً أمامي… واقتربت أكثر وأدركت أنّني واقفٌ أمام مرآة تعكس كل ما عُرض عليها… آآآآه آآآه يا قمّة دهشتي وذهولي: هل هذا هو الرّب؟ مجرّد مرآةٍ للواقع؟ مجرّد انعكاسٍ لما نعيشه؟
وبكلّ شدّة احباطي وخذلاني وضعت كلّ قوتي في قبضةٍ كسرت بها المرآة وخطوت خطوتي باحثاً في ماورائها تاركاً خلفي ممن كانوا معي في غياهب غفلتهم.
آسفاً وجدت نفسي بين الناس وفي أزقّة الحياة الّتي انطلقت منها وبذهولٍ امتصصت صدمتي و نهضت مكتشفاً الحياة الّتي تحيط بي تلك الحياة الّتي لم آخذها سابقاً بعين الاعتبار إلّا بعد ما خبرته في هذه الرّحلة خارج الزّمان. عرفت أنّ الرب موجودٌ فقط ذاكرة في النّاس كفكرةٍ أوجدها العقل البشري وليس العكس. خسرت نصف عمري كعبدٍ نعم، لكن لحسن حظّي مازال أمامي نصفٌ عمري أعيشه كرب.
ماسين كيفن العبيدي
إقرأ أيضاً : لماذا أنا ملحد؟
0 تعليق