المادية – اللوغوس في المعتقدات
تكلّمنا في الفيديو السّابق عن العامود الأوّل في فهم اللوغوس في الغنوصية الذي يعتبر اللوغوس مجرّد مطحنة للفوضى العدميّة يُظهرها إلى الوجود ويعيدها للفوضى مرّةً أخرى إلى لا نهاية، حيث لا شيء مهم إلّا ما تُرك للأجيال القادمة.
الفكر العبثي في الغنوصيّة يختلف كليّاً عن الفكر العبثي المتعارف عليه، حيث إنّ الفكر العبثي في الغنوصية يقول: لا حل ولا خلاص إلّا بالوصول إلى الأزليّة وعدم العودة للوغوس وإلى المطحنة وإلى الفوضى ولهذا المهم الآن ما نترك للأجيال القادمة لكي تصل إلى الأزليّة، أمّا نحن سوف نذهب للزّوال والتّلاشي النّهائي.
هذا مفهوم اللوغوس في هذه النّظريّة حيث تعتبر كل الجهود التي يبذلها الإنسان لفهم اللوغوس تنتهي دائماً بالفشل إلى أن تصل الإنسانيّة إلى الأزليّة. هذه النّقطة التي يجب التّركيز عليها في الفيديو السّابق. تتلخّص الفكرة في:” اعمل وقدّم للأجيال القادمة ولا تبحث لكي تفهم لأنّك لا تفهم وإلى التّلاشي والزّوال ذاهب، فأنت مجرّد مطحنة للأجيال القادمة”. هذه النّظريّة جدّاً تشاؤميّة وحزينة، ولكن فيها بصيص من الأمل للأجيال القادمة عندما تصل إلى الأزليّة.
من هذه النّظرية خرجت عدّة أديان وإيديولوجيات وفلسفات وأفكار؛ أذكر على سبيل المثال البوذية والطّاويّة. أمّا في الإيديولوجيات مثل الشّيوعيّة المثاليّة واللاسلطويّة، وفي الفلسفات مثل العبثيّة والسّفساطيّة ،أمّا في الأفكار مثل فكرة الانتحار أو فكرة التّسليم. أظن أن الفكرة واضحة وهذا المطلوب منكم معرفته في الفيديو السّابقة، وسوف نعود للحديث عن العبثيّة في فيديوهات مستقبليّة. أمّا في هذه الفيديو سوف نتكلّم عن العامود الثّاني أو النّظرية الثّانية لفهم اللوغوس في الغنوصيّة.
هذه النّظرية ظهرت متأخّرة عن التي قبلها ويمكن القول إنّها ظهرت قبل مئات الآلاف من السّنين بعد أن اكتشف الإنسان النّار وبدأت المجموعات البشريّة تتكوّن ورسم الحدود للقبيلة أو للمجموعة، وبدأ الإنسان أكثر استقراراً بعد أن كان رُحَّل، ويمكن القول إن بظهور هذه النّظريّة ظهر الإنسان الحالي وهي النّظرية أو العامود الذي سوف نطلق عليه “النّظريّة المادية“.
طبعاً مثل في الفيديو السّابق المادية هنا ليس ما هو متعارف عليه حاليّاً، وإنّما استعملنا كلمة “الماديّة” لأنّها الأسهل لفهم هذه النّظرية أو هذا العامود.
النّظرية الماديّة لفهم اللوغوس انطلقت من الواقع الذي وصل إليه الإنسان في ذلك الوقت، حيث أصبح الإنسان في تلك الفترة أكثر عزلة عن الحيوانات وأصبح يمثّل مجموعة مستقلّة، وينقسم إلى مجموعات، وأصبح هناك النّظام الهرمي والقوانين والقواعد والأخلاق التي تحكم ذلك الزّمان. في هذا الزّمان الإنسان لا يرى ولا يستوعب إلّا المادّة. المادّة كجسم، المادّة كطبيعة، المادّة كمناخ، المادّة كحيوان ونبات.
فالإنسان الأوّل البدائي كان ملتصقاً بالمادّة التصاقاً كليّاً، فعندما فكّر في اللوغوس فهمه على حسب الحالة التي هو فيها ومنها، حيث اعتبر اللوغوس هو المادّة الأولى التي منها جاء كل الوجود المادّي، هذه المادّة الأولى هي مادّة قديمة انطلق منها الوجود المادّي. لو النظريّة الأولى العبثيّة ترى أنت اللوغوس طاحونة تطحن العدم الفوضوي وتظهره للوجود عبثيّاً ثم تعيد طحنه من جديد، هذه النّظريّة ترى أن اللوغوس مادّة أوليّة على شكل نقطة في العدم أو عقدة في العدم.
هذه العقدة أو هذه النّقطة كانت من مادّة أوليّة أصل كل المادّة وكانت صلبة في العدم ،و قد لم تكن وحدها ،بل في العدم اللامتناهي يمكن أن يكون أكثر من نقطة وأكثر من عقدة ،و لكن التي تهمّنا هي العقدة التي انطلق منها هذا الوجود المادّي ،و كل نقطة أو عقدة في العدم يمكن أن نطلق عليها لوغوس فهي عبارة على مادّة صلبة ممتلئة بالطّاقة وهي عبارة على مركّز وتركيز قوي ؛أي مضغوط ضغطاً غير متصوّر، تحتوي كل ما هو مادّة موجودة الآن.
أي أن اللوغوس عبارة على كل هذا الوجود المادي مضغوط في نقطة، ولكن لا يحتوي إلا على المادة الأوليًة؛ لا شكل ولا لون ولا شيء، مجرّد مادّة أوليّة وطاقة؛ لا عقل ولا روح ولا وعي. شيء مادّي ممتلىء إلّا بالمادّة فقط، وجد الفراغ الذي هو العدم حوله فاتسع فيه وأوجد المكان، فوقع تباعد بين أجزاء المادّة الأوليّة في عمليّة غير واعيّة وغير منظّمة وغير محسوبة تحكمها المحاولات المتكرّرة والظّروف والعوامل حتى وصل الوجود إلى ما هو عليه
الآن بعد محاولاتٍ طويلة جعلت الباقي والمتواصل هو الأصلح وكل من يتلاشى ويذوب هو الأسواء، فالغنوصيّة الماديّة لا تقول البقاء للأصلح كما يقول المذهب العلمي المادّي وإنّما تقول؛ الذي يبقى هو الأصلح، مهما كان وإن لم يكن هو بالفعل أصلح. أي إن الباقي هو الأصلح وإن كان فاسد، والفاني هو الأسواء وإن كان صالحاً.
هذه الفكرة أعطت أهميّة كبيرة لمن هو موجود في الحياة ولم تهتم بمن يموت هذا من جهة ،و من جهةٍ أخرى ترتب الأفضل في الموجودين من يخدم مصلحتها ويحافظ على وجودها ؛فمثلاً تقول هذا الحيوان أفضل من هذا الحيوان أو هذا النبات أفضل من هذا النبات لأنه يخدم مصلحتها ويحافظ على وجودها .لا يعني أنّه بالفعل هو الأفضل حيث أصبح الإنسان هو المركز وكل ما حول الإنسان يجب أن يخضع للإنسان ويكون في خدمة الإنسان وإن فنى كل ما هو حوله، المهم أن الإنسان يبقى في الوجود ،و من هذه الفكرة انطلق الإنسان في إخضاع الطبيعة وإخضاع الحيوان من أجل أن يبقى في الوجود وإن فنى كل ما حوله لايهم ،المهم هو فقط.
هذا الفكر الأناني هو الذي جعل الإنسان يتقدّم ويسيطر على الأرض، بل كل مجموعة أو كل قبيلة استعملت هذه الفكرة للسيطرة على الآخرين والتّوسع والبقاء وإن أدّى ذلك إلى فناء المجموعات البشريّة الأخرى. الحيوان يقتل من أجل أن يأكل وإنّما الإنسان بهذه الفكرة يقتل من أجل أن يتوسّع ويصبح أقوى ويبقى.
إذاً نعود لفكرة اللوغوس في النّظرية المادية الغنوصية؛ حيث تعتبر أن اللوغوس كان موجوداً ومات وتلاشى وانتهى وترك مكانه لهذا الوجود الذي يحكمه الموت من أجل التّطوّر، فالموت هو قانون وُجد من الأول عندما مات اللوغوس وترك مكانه لهذا الوجود فأصبح الموت قاعدةً أساسيّة لا فرار منها إلا طبعاً لو يتوصّل الإنسان إلى الخُلد ويتغلّب على كل الأمراض ويتغلب على الموت.
إذاً هذه النّظرية تعتبر اللوغوس مات إذاً غير مهم أصلاً لأنّه مات وانتهى ولا تبحث في ماهيّة المادّة الأولى التي كان متكوّن منها اللوغوس لأنّها لم تعد موجودة، ولكن يمكن فهمها من خلال المادة الموجودة الآن؛ أي ننطلق ممّا نحن موجودين فيه، حيث فيه نجد الإجابة بدراسة المادة وفهمها ولهذا هذه النّظريّة الماديّة لا تبحث لماذا اللوغوس أوجد الوجود وإنّما تبحث كيف هذه المادّة الأولية أوجدت الوجود.
إذاً في هذه النظريّة الماديّة مثل النّظريّة العبثية اللوغوس ليس له أي قيمة؛ ففي النّظريّة الأولى مجرّد مطحنة وفي هذه النظريّة مات وانتهى وليس له علاقة لا بالرّب ولا بالخالق ولا بأي قوّة أخرى مهما كانت. في الحالتين لا هو مريد ولا مفكّر ولا واعي؛ عمليّة أوتوماتيكيّة لا أكثر ولا أقل.
هذه النّظرية تعتبر الوعي والفكر مرتبط بالمادة مثلما الظّل أو الخِيال، تموت وتنتهي عندما تموت المادة أو يموت الجّسم؛ فهي عبارة عن سراب وما يبقى منها إلا ما هو متوارث في الأحياء، وهذه النّقطة تتفق مع النظرية العبثية حول الفناء والزوال بالموت. هذه النظرية المادية لا تؤمن إلا بالمادة فقط وكل ما نطلق عليه وعي وعقل صادر من المادة وهو بدوره نوعٌ من أنواع المادة الأوليّة وعلمية كيماويّة لا أكثر ولا أقل.
إذاً وصلنا إلى آخر هذه الفيديو. أرجو أن تكونوا قد أخذتم فكرة عامّة حول النظرية المادية في الغنوصيّة فيما يخص اللوغوس، وللعلم هذه النظرية مثلها مثل التي من قبلها أوجدت بدورها أدياناً، وفلسفات، وإيديولوجيات، وأفكار. بالنّسبة للأديان على سبيل المثال الطوطمية الذين يؤمنون بالطوطم وليزامينيست وعباد الأصنام. أمّا فيما يخص الفلسفات نجد الفلسفة المادية والالحاد المادي والفلسفة البيقوريّة التي لا تؤمن إلا باللذة فقط والغرائز.
أما الأيديولوجيات نجد الاسقراطية والرأسمالية وكل الإيديولوجيات التي تقوم على المال والثّروة وعلى الحكم وعلى السّيطرة. أمّا من الأفكار نجد فكرة جمع الثّروة، القتل، الحروب، الصراعات وغيرها من الأفكار الماديّة التي تعتمد على هذه النظرية.
هذه النظرية تعتبر اللوغوس قد مات وإن الذي سوف يبقى هو الذي سوف يكون رب هذا الوجود؛ بحيث تعتبر إن الرّب الأوّل الذي ظهر منه هذا الوجود مات وترك مكانه لهذا الوجود الذي هو في صراعٍ مستمر من أجل البقاء، ومن سوف يبقى ويسيطر على العالم هو الذي سوف يكون الرّب المسيّر، وإن هذا الصّراع لا يتوقّف على الأرض فقط وإنّما على كل الكون ،ولهذا يمكن أن يكون هناك موجودات ذكيّة في الكون سوف ندخل في صراعٍ معها ومن سوف سوف يبقى هو الذي سوف يكون الرّب المسيّر لهذا الوجود.
إذاً على حسب هذه النظرية تحدّي الإنسان جداً كبير، عليه أن يسيطر على الكون وأن يصل للخلد وأن يكون رب هذا الوجود المادي وكل الطرق مسموحة، المهم الوصول. الأفضل من يصل مهما كان وبأي طريقة ومهما كان الثّمن .المهم هو الحي فقط الموجود ،و كل من مات ما هو إلّا غبار لمن هو موجود.
أظن أن الفكرة الآن واضحة ولو لديكم أسئلة لا تترددوا في السؤال، سوف أجيبكم بأقرب وقت ممكن في فيديو.
تحياتي للجميع. شكراً على الاستماع. شكراً على التّشجيع. شكراً على التّوزيع ومع فيديو قادم وبالسّلامة..
0 تعليق