أساليب التعليم في الغنوصية
كما قلت في الفيديو السابق لم أتوقع يوماً إني سوف أكون معلماً أو أن أعلم أي شيء، لأن همي الأول كان ومازال أن أتعلّم فقط. لقد رفضت سابقاً أن أكون عالم دين لأني لم أقبل أن أكذب على جمهور المتدينين بالإسلام، ولقد رفضت مرةً أخرى أن أعلّم الغنوصية أو العلوم الروحانية لأني أرفض أسلوبهم في التعليم الذي يقوم على الهرميّة التقليدية المصطنعة والاحتكار المفرط للمعرفة، وعلى السريّة وخاصّة على التّبعية لنظام معرفي مقنّع يختفي وراء أيقونات تجاريّة وغير تجاريّة مثل السّحر والطّاقة وعلوم الباطن والأديان والمذاهب وغيرها.
هذا الأسلوب المقنّع لم يتغيّر قديماً ولا حديثاً، هو نفسه يُتّبع من طرف أكبر الغنوصيين. لا يمكن أن تكون معلّماً ولك تلاميذ إلّا باتباع هذا النّظام الذي وضعه البشر ولا يمت للغنوصية بشيء، بل يمكن القول إنه يخالف كليّاً المعرفة الغنوصية وكل الغنوصيون الذين تحدثت معهم يعلمون ويعرفون ذلك ولكنهم يصمتون تحت عدة مبررات:
المبرّر الأوّل: البعض يقول أن البشرية يجب أن تمر بهذه المرحلة لكي تخابرها وتعرفها جيداً قبل أن تنتقل إلى مرحلةٍ أخرى. هذا المبرّر قد أقبله نسبيّاً، لكن إلى متى؟ كل واحد يقول هذا الكلام ويترك الأمر على حاله لكي يغيره غيره في المستقبل. هذا غير مقبول. يجب أن نتجاوز هذه المرحلة أو هذه التجربة، فالغنوصية تؤمن أن كل شيء يولد ويموت بما فيهم التجربة يجب أن تموت لكي تترك مكانها لتجربة جديدة، وهذه التجربة مع الأسف أصبحت قاعدة من القواعد الأساسية التي يتّبعها الغنوصيين، وهذا أعتبره خطأً كبيراً.
المبرّر الثّاني: هو أنّ البشرية في أوّلها كانت في مرحلة الطّفولة ومن الصّعب عليها تقبُّل المعرفة، ولهذا المعرفة كانت عند البعض يتناقلونها لكي تصل إلينا اليوم، ولولا هذا الأسلوب لضاعت المعرفة؛ فثلما تعطي طفل صغير ألماسة لا يعرف قيمتها فيضيعها، بينما لو وضعت هذه القطعة من الألماس في شيء يحبه مثل لعبةٍ صغيرة تناسب عقله ومعرفته سوف يحافظ عليها حتى يكبر وينضج ووقتها يكتشف الجوهرة في داخلها ويعرف قيمتها. أوكي هذا المبرًر أيضاً يمكن أن أقبله. لكن هل البشريّة مازالت طفلاً صغيراً؟ لا طبعاً.
فلماذا الاستمرار إذاً في التّخفي وراء ألعاب الأطفال من أديان ومذاهب وحركات صوفية وعلمٍ باطن وعلوم وغيرها؟ متى سوف نُظهر المخفي؟ أم إنّ الطّفل سوف يشيخ وهو يلعب بلعبته ولا يعلم أنّ فيها جوهرة ألماس. هذا غير مقبول اليوم ويجب أن يتغيّر.
المبرّر الثالث: أنّ هذه العلوم خطيرة على الكثيرين حيث لا يحسنون استعمالها وسوف تقع الفوضى في العالم لو كانت في متناول الجّميع. لهذا بالنّسبة لهم يجب وضع الكثير من الحواجز للوصول إليها، ويجب إخفاؤها وتركها سريّة إلًا للبعض حتى تكبر البشرية وتصل إلى الرُّشد والكمال؛ مثلما تخفي عن طفلٍ صغير ماء الجافيل أو الماء الحارق أو الأدوية أو الكبريت كي لا يُحدث مصيبةً في البيت. نفس الجّواب للمبرّر الثّاني هل البشريّة مازالت طفلاً؟ طبعاً لا أولاً وثانياً لو تحدث فوضى وتجاوزات كما يقولون، فليحدث ذلك.
أليست هي تجربة أيضاً للإنسانية يجب أن تعيشها لكي تصل بعد ذلك إلى الاستقرار؟ أمّا ثالثاً أنتم تعلمون جيداً أن هذه المعرفة تحمي نفسها بنفسها لأنّها من صلب الوجود وليس من السًهل فهمها رغم سهولتها من الجّميع؟ إذاً أظهروها واتركوها تسير سيرها الطبيعي. إلى متى الاحتكار والإخفاء؟ من حق الجّميع أن يعرف وأن يجرّب وأن يتحمّل مسؤوليته، فهي مرحلةٌ مهمة يجب أيضاً أن تمرّ بها الإنسانية.
المبرّر الرّابع الذي هو الأخير هنا – رغم أنّه ليس الأخير وإنّما اخترت الأربع مبرّرات الكبيرة والمهمّة – الذي يقدّمه أغلب الغنوصيون اليوم عندما تقول لهم إنّ الإنسانية لا تحتاج إلى هذا الأسلوب ووصلت إلى مرحلة من النّضج ويجب إظهار كل شيء للجميع جوابهم: إنّ البشريّة الآن متفاوتة كثيراً في درجات الوعي ومشغولة بالحياة اليوميّة ومصاعبها، وهناك تفاوت اجتماعي ومعرفي، وتفاوت في الاستيعاب، والطبقية الاقتصادية والاجتماعية، حيث لا يمكن الآن أن نغيّر الأسلوب. فات الأوان ويجب أن نواصل على هذا الأسلوب لعلّ في المستقبل ببطئ تتساوى البشريّة، فكثرة المعلمين اليوم سوف توصلنا تدريجيّاً إلى تلك المرحلة في المستقبل.
هذا التّبرير أرفضه كُليّاً وأعتبره هو المصيبة الكبرى، حيث أن هذا الأسلوب الخاضع للواقع يخالف مبادئ الغنوصية التي هي تمرّد على الواقع، وهو أسلوبٌ يخدم مصلحة الطبقيّة التي تحتكر المعرفة والمال والسّلطة. كل هذا يجب أن ينتهي ويجب ثورة حقيقية للتّغيير الجذري وإظهار كل شيء، وليحصل ما يجب أن يحصل مهما كان الثّمن، وهذا الذي جعلني لم أقبل أن أكون معلماً على حسب هذا الأسلوب التّقليدي الذي سوف ألخصه في عدّة نقط:
النّقطة الأولى هي الهرميّة. طبعاً الهرمية موجودة في الطبيعة وهي نظام كوني، ولكن أنا لا أتكلّم عن الهرميّة العمريّة ولا الهرميّة الزّمنية ولا عن الهرميّة بين القديم والحديث، ولا عن الهرميّة بين الأنواع والموجودات. إنّما أتكلّم عن الهرميّة بين البشر. هذه الهرميّة كرّسها النّظام العالمي منذ عشرات الآلاف من السنين وخلقت طبقة الحكام والشعب، والأغنياء والفقراء أو العمّال، وطبقة رجال الدّين والتّابعين. هذه الهرميّة في نوعٍ واحد لا يجب أن تكون شاسعة خاصّة مثلما نراها عند البشر.
ومن المفروض أن الغنوصية تُحارب هذه الطبقيّة أو هذه الهرمية، ولكن مع الأسف الغنوصيون خضعوا لهذه الهرميّة أو الطّبقيّة بالحجج التي ذكرتها سابقاً، وهي فكرة المعلم أو العارف أو الرّاهب أو الكاهن الذي هو فوق والتّلميذ الذي هو تحت. الغنوصية لا تؤمن بذلك بل تعتبر المعلم تلميذ والتلميذ معلم في نفس الوقت. هذه الفكرة التي قدّست المعلّم أعتبرها خطأً كبيراً يجب أن تنتهي منه، وطبعاً الكثيرون لا يريدونها أن تنتهي لأن لو علم المتديّن حقيقة دينه لما احتاج إلى علماء دين. لو عرفت الأفراد واجباتها ومسؤولياتها لما احتاجت إلى قانون وحاكم. لو علم الفقير حقيقة الوجود لطلب حقه في الحياة ولما كان هناك غنى فاحش ولا فقر فاحش.
النقطة الثانية الأبواب أو الواجهات التي يختفي وراءها الغنوصيون ؛ مثل عالم الباطن أو علم التّأويل أو الأحزاب السياسية أو المذاهب أو اللوبيات أو الأديان أو الحركات الصّوفية و غيرها من الأبواب. لماذا لا نشاهد اليوم أشخاصاً يقولون أنّهم غنوصيون أو يعلنون أنّهم يعلمون الغنوصية؟ لماذا دائماً مختفون وراء هذه الأبواب وهذه الواجهات؟
صحيحٌ أن المعرفة الغنوصية عبر التّاريخ وخاصّة بعد ظهور الأديان الابراهيميّة شُوِّهت وأصبحت جريمة. قادت الأديان الابراهيمية حرباً شعواء بمجرّد الشّك أو التّهمة للتّنكيل بهم وقتلهم وإبادتهم حتّى أننا يمكن القول أن ليس هناك في كل التاريخ من تعرّض للإبادة و القتل أكثر من الغنوصيين لهذا كانوا يستعملون التّقية للاختفاء و عدم الظهور ورغم ذلك يتمّ التّفطن إليهم و قتلهم.
كما يقول الإمام السّادس للشّيعة جعفر الصّادق: ” التّقية ديننا ودين آباءنا، ومن لا تقية له لا دين له «. إذاً التّقيّة والاختفاء والتّلون أصبحت قاعدةً عند الغنوصيين إلى اليوم رغم أن الخطر اليوم لم يعد موجوداً، ولكن لا أفهم لماذا الغنوصيون يواصلون على هذا الطّريق. لم أفهم هل هو خوف أصبح مغروساً فيهم أو مصلحةً شخصيّة أو خضوع للنّظام العالمي الموجود الذي يتحكم فيه ما يسمّى الأغنياء وأصحاب السُّلطة، وهذا يخالف قواعد الغنوصية التي تطلب من الإنسان أن يكون واضحاً وبيّناً ولا يخاف..
النقطة الثالثة : هي تعليم الفروع قبل الأصول. أي أن المعلّم يعلم القاعدة فلا يُعلّمها للتّلميذ في الأول، بل يعطيه كيف يفهمها هو وعلى التّلميذ أن يؤمن بما يؤمن المعلّم وأن يتّبعه في الظّاهر وهو لا يفهم الباطن؛ عبارة على إنسان تعطيه السمك ولا تعلمه كيف يصطاد، وهذا يدوم فترة طويلة حتى يُثبت التّلميذ للمعلّم أنّه وصل إلى المستوى أن يعلمه الأصل. هذا أراه غير حيّد لأن فيه مضيعة للوقت أولاً وثانياً فيه نوعٌ من التّبعية والتّقليد في الأول قد تطول العمر كله.
كما في نفس هذه النقطة المعلّم يطلب من التّلميذ ألّا يسأل ولا يناقش ولا يعارض في الأول حتى يصل إلى المستوى الذي يمنّ عليه لكي تكون له حقيقة الأشياء. فلماذا لا نعلّم أصول الغنوصية كما هي ونترك كل إنسان يفهمها كما يريد؟ لماذا هذه الوصاية وما الهدف منها؟
النقطة الّرابعة الاهتمام بالشكل الخارجي و استعمال أدوات تُبهر الآخر و تجذب الآخر إليهم ، و هذه الأشكال الخارجيّة من نوع اللّباس إلى المظهر الخارجي إلى نوع الحركات و الجلوس إلى الأدوات المستعملة إلى الألعاب البهلوانيّة إلى الحيل الغير أخلاقيّة التي تُستعمل لجلب الطّرف الآخر. كأنّ الغنوصي يحتاج كل ذلك لجلب الآخرين له. لماذا كل هذا التّعقيد؟ لماذا كل هذا اللّف والدّوران؟ لماذا لا يكونوا واضحين من الأول وعلى شكلهم الطبيعي؟
هذه المشكلة التي أتساءل عنها دائماً.
كثير من الغنوصيين رغم احترام معرفتهم وعلمهم تحولوا إلى مؤسّسات ربحيّة وغير ربحيّة – من حقّهم طبعاً ذلك – لكن عليهم أن يكونوا واضحين من الأوّل ولا يحصرون الغنوصية في المظاهر الخارحية لأنّ الغنوصية هي الباطن ليس الظّاهر.
إذاً أن يخضع الغنوصيون للنّظام العالمي الذي يتّبعه الأغنياء والسّياسيون ورجال الدّين أراه غير غنوصي، فمن المفروض أن الغنوصي لا يهتم بالمظاهر ولا بالسّلطة ولا بالثّروة. بل لا يهتم أصلاً بكل ما هو مادي، وتُعتبر المادّة شيئاً ثانوياً يأتي في المرتبة الثّانية، فلماذا يلعبون هذه اللعبة مهما كانت مبرّراتهم ومهما كانت حججهم، وإن كانت صادقة في زمنٍ معيّن ففي هذا اليوم لم يعد لها أية أهميّة.
اليوم من حق الجميع أن يعرف ومن حق الجميع أن يبحث على السّلام لوحده ومن حق الجميع أن يتحمّل مسؤوليته. كفى وصايا على الآخرين. فليهتم كل إنسانٍ بنفسه. أتينا إلى هذا الوجود وحدنا فلنعيش وحدنا ونموت وحدنا.
هكذا وصلنا إلى آخر الفيديو والآن فهمتهم لماذا لا أريد أن أكون معلم لأن لكي تكون معلّم يجب أن تتبع هذا الأسلوب وهذا ما سوف نعرفه في الفيديو القادم.