العدم أو الفراغ والبداء في الغنوصية
تكلّمنا في الفيديو السّابق عند الدهر والزمان في الغنوصية، وعلمنا أن الدهر والزمان ليس هو اللوغوس بل هو حركة اللوغوس، وطبعاً سوف نفصّل في ماهيّة الدّهر والزّمان في فيديو مستقل لأنّه موضوع جدّاً كبير، ولكن الذي أردنا أن نقول هنا أنّ الدّهر والزّمان ليس هو اللوغوس بل هو حركة اللوغوس فقط.
العدم والفراغ لا يقلّ أهميّةً عن الدهر والزمان حيث يُعتبر العنصر الثّالث في الوجود واللاوجود والذي بدوره لا يُمثّل اللوغوس.
مع الأسف هناك مشكل مصطلحات كبير عند الإنسان يجعله لا يفهم عدّة أمور مهمّة جداً في فهم وجوده ولهذا يجب فهم حقيقة المصطلحات التي يستعملها بطريقةٍ عفوية أوتوماتيكيّة دون الفهم الحقيقي لمغزى الكلمة.
صحيحٌ أن هذه الكلمات أو هذه العبارات مهما كانت اللغة هو جانب تلقيني مكتسب تعلّمناه في الصّغر ونستعمله دون فهمٍ دقيق ودون إحساس داخلي بمعنى هذه الكلمات، وننقله للأجيال القادمة بنفس الطريقة التّقليديّة الوراثيّة، ولا نفهم معنى المصطلح أو معنى الكلمة بالفعل.
رغم أن كل كلمة مهما كانت وبأي لغة كانت لها تاريخٌ طويل في عمق البشريّة وعمق الإنسان. خذ أي كلمة بأي لغة كانت وابحث عن تاريخها سوف تجد أنّ من قالها أوّل مرّةٍ أحس بها وفهمها بالفعل ولم تأتي من الفراغ، ولكن تلقينها ونقلها عبر الأجيال يجعلها تفقد معناها الحقيقي وحتّى أنّها تفقد شكلها وطريقة نطقها، ولهذا يجب العودة إلى أصل الكلمة في اللغات القديمة العريقة لمعرفة نطقها وشكلها الحقيقي وخاصّةً في اللغات العقائدية والدّينيّة والرّوحانية.
اللغات السّاميّة تُعتبر من ضمن هذه اللغات ومنها طبعاً العربيّة؛ حيث تقوم على جذر الكلمة المكونة من ثلاث حروف وهي مصدر أي كلمة، وهذه القاعدة الغنوصيّة المهمّة التي تقوم على رقم ثلاثة نجدها في كثير من اللغات العريقة.
الذي أردت أن أقول من هذا الكلام هو التّنبيه لفهم المصطلحات. إنّ أحد قواعد الغنوصية هو فهم معنى الكلمات و معرفة مصطلحاتها والحس بها، وبدون معرفة الكلمات لا يمكن أن تحصل لك المعرفة.
اللّبس بين هذه الكلمات التي هي كلمة العدم وكلمة الفراغ وكلمة المكان؛ هذه كلمات ثلاثة جداً مهم فهمها قبل أن نفهم الوجود أو عدم الوجود. أوّل شيء يجب فهمه أنّ العدم ليس له وجود في عالم الوجود الذي نحن فيه، وهو مثله مثل الدّهر خارج الوجود.
إذاً قبل الوجود الذي نحن فيه الآن كان الوجود متكوّن من ثلاثة عناصر أساسية هي: العدم ،الدّهر واللوغوس.
أمّا في عالم الوجود الحالي الذي نحن فيه هو نفس الشيء موجود إلّا أنّه جُزّء وحُدِّد لأنّ في عالم الوجود الحالي كل شيء مجزّء ولا يمكن أن يكون لك وجود دون إطار حقيقي، فالدّهر أصبح يُطلق عليه زمان، والعدم أصبح يُطلق عليه فراغ، واللوغوس أصبح يُطلق عليه أشياء.
إذاً نحن هنا نتكلّم عن العدم والفراغ في الغنوصيّة كما تكلّمنا عن الدّهر والزّمان في الفيديو السّابق، فلا يمكن في المنظومة الوجوديّة التي نحن فيها الآن فهم الدّهر أو العدم، ولكن يمكن فهم الزّمان والفراغ، وعندما نفهم الزّمان والفراغ يمكن من خلالهما فهم الدّهر والعدم فهماً حسّياً تصورياً فقط يقربنا للمعرفة المجهولة، ولهذا الغنوصيّة تقول في إحدى قواعدها الأساسيّة :” من خلال المعلوم يمكن فهم أو حس المجهول”.
إذاً الإنسان الأول قبل معرفة الزّمان عرف الحركة التي تتمثّل في حركة الليل والنّهار أو القمر أو النّجوم أو الشّمس التي هي الشيء الظّاهر الملموس والمحسوس للإنسان الأوّل، وهذه الحركة لم يعِ بها إلا الإنسان ووصل من خلالها لفهم فكرة الزمان ،ومن خلال فكرة الزّمان وصل إلى فكرة الدّهر. طبعاً الإنسان قبل أن يفكّر في الحركات التي حوله سواء في الطبيعة أو غيرها فكّر أوّلاً في حركاته الشّخصيّة مثل القيام والقعود ،والتّحرك والمشي والجّري ،وطبعاً حركات كلّ من هو قريبة منه وما حوله.
فالوعي بالحركة ثمّ الزّمان ثمّ الدّهر كان تدريجياً وعلى مئات الآلاف من السّنين وليس في يومٍ وليلة، أي درجة الوعي الإنساني لم يكن صدفة أو نزل من السّماء. كان عن تمرّسٍ وتجربة حقيقيّة واحتكاك الإنسان الأول بالطبيعة والوجود الذي أوصلته إلى الوعي الذي أصبح بعد ذلك متناقلاً وموروثاً.
نفس الشيء بالنسبة للإنسان الأوّل قبل معرفة العدم والفراغ يجب عليه أن ينطلق من شيء ظاهر وملموس ومحسوس للفراغ الذي هو المكان.
المكان مثله مثل الزّمان هو الشيء الظاهر والملموس عند الإنسان الأوّل قبل ملايين السنين. المكان كان في الأوّل يتمثّل في المغارة أو البيت أو المكان المحدود جدّاً، ثمّ اتسع فأصبح ما حول المكان الذي تمّ اختياره كمكانٍ ضيّق ومحدود.
مع تطور الانسان أصبح المكان أوسع تحدده حدودٌ طبيعيّة مثل البحار والأنهار والغابات والجّبال ومن هذه الفكرة ظهرت فكرة الوطن. بعد وعي وفهم المكان انطلق التفكير والحس والوعي الإنساني إلى فكرة الفراغ بمفهوم الهواء أو السّماء التي فوقه، ومن خلال الفراغ وصل أخيراً إلى فهم وحس فكرة العدم التي بالنّسبة له مجرّد تصوّر وحس مثله مثل الدّهر ليس لديه أي دليل فعلي على وجوده وكيف يكون، ولكن من خلال المعلوم فهم أو تصوّر أو أحسّ أو تخيّل ما هو مجهول.
الوعي بالزّمان والمكان بعد ملايينٍ من السنين من الممارسة والتّفكير والحس والانتباه وصل الحيوان البشري إلى الخروج من عالم الحيوان عندما تفوّق على كلّ الحيوانات الأخرى بالوعي بفكرة الزّمان والمكان الذي ليس هناك حيوان واحدٌ على الأرض يصل إلى درجة وعي وفهم وحس الإنسان بفكرة الزّمان والمكان.
أدري أنت الكثير منكم يقول إنني أتكلم في بديهيات وهي فكرة الزّمان والمكان، وإن أي إنسان يعرف ذلك، فلماذا أتكلّم في هذا الأمر الذي يُعتبر بديهياً ومُسلّماً؟ أقول له؛ إن الإنسان يولد لا يعرف معنى الزّمان والمكان ويحتاج إلى سنواتٍ كثيرة حتى يعي بالزّمان والمكان، كما أنّ الإنسانيّة في عالم الحيوان احتاجت إلى مئات الآلاف بل ملايين السّنين للوعي بفكرة الزّمان والمكان ولكن الفرق أن الإنسان الذي يولد على الفطرة لا يتعلّم وحده مفهوم الزّمان والمكان مثلما تعلّم الإنسان الأوّل، بل يُلقّن فكرة الزّمان والمكان كمعلومة فقط دون أن يعيشها كتجربة ويحس بها بنفسه كما فعل الإنسان الأوّل.
إذاً لا يكفي أن تعرف مصطلح الزّمان والمكان ولا يكفي أن تفهم من النّاحيّة العلميّة معنى الزّمان والمكان يجب أن تعيش وتحس وتعي بالزّمان والمكان وعي حقيقي مثلما فعل الإنسان الأوّل وذلك لا يكون إلّا في حالة سكونٍ مطلق.
طبعاً هنا سوف لا أتكلّم عن عمليّة السّكون المطلق أو شبه المطلق الذي يجب أن يقوم بها الإنسان للوعي الفعلي بالزمان والمكان، ولكن سوف أعطي معلومات عن الحواس الماديّة الإنسانيّة الموجودة في كل واحدٍ فينا والتي فقدنا معناها الحسي نتيجة التلقين المكتسب بعيداً عن التجربة الفعليّة.
الكل يعلم أن هناك حواسٌ خمسة ماديّة تقليديّة كما صنّفها أرسطو وهي: البصر، السّمع، الشّم، التّذوّق واللّمس ،و هناك حواسٌ أخرى يُطلق عليها الحواس الدّاخلية والتي يقسّهما البعض إلى ستة حواس. لكن هناك حاسة سادسة مادية لا يتكلم عنها الكثير وهي حاسة التّموقع وهي حاسة مادية وعلمية وهي مرتبطة بالمكان موضوع درسنا في هذا الفيديو.
هذه الحاسّة التي يُطلق عليها حاسّة التّموقع حيث الإنسان بغياب كل الأحاسيس التقليدية الأخرى الخمسة يمكن أن يعرف موقعه بالنسبة للخارج ويمكن أن يعرف موقع أي قطعة من جسمه وهو في حالة سكونٍ مطلق دون استعمال أحاسيسه الأخرى. يمكن أن تقوم بالتجربة لوحدك؛ أغمض عينيك ودون تفكير سوف تعرف أين موقع يدك اليسرى وأين موقع يدك اليمنى، ويمكن أن تعرف أي قطعة من جسدك أين تكون بحاسة التّموقع.
رغم أن هذه الحاسّة التي تعتبر الحاسة السادسة التقليديّة أو الماديّة كثير لا يعلم بوجودها رغم أنّها حقيقة علميّة، وأكيد أن كثير منكم فقد هذه الحاسة لمدّة ثواني، ولكن رغم ذلك لم ينتبه إليها، وقد يفقدها الإنسان في بعض الحالات وخاصّة عند الاستيقاظ من النوم وخاصّة بعد نوم القيلولة أو نوم العصر؛ حيث يستيقظ الإنسان لا يعرف رجليه أين ولا رأسه أين، بل يفقد كل مواقع أجزاء جسمه وحتى يفقد موقعه، فلا يعلم أين يكون هل هو في تلك البلد أو في هذه البلد. ولا يعلم أين موقعه بالنسبة للخارج.
إذاً هذه الحاسّة:حاسة التموقع وكل الحواس الأخرى سواء التّقليدية أو الداخلية سوف نتكلم عن كل واحدةٍ منها في فيديو مستقل و نذكر كيف نصل إلى الوعي بها والحس بها فعلياً، وهنا لم نذكر إلا حاسّة التموقع التي هي حاسة جداً مهمة والمرتبطة بموضوع هذا الدّرس الذي هو المكان.
إذاً كما قلنا في الفيديو السابق أن الزّمان ليس اللوغوس، في هذا الفيديو نقول أن المكان ليس اللوغوس. اللوغوس أمرٌ آخر سوف نعرفه أكثر في الفيديوهات القادمة.
هكذا وصلنا إلى آخر هذه الفيديو.
شكراً على الاستماع. شكراً على التّشجيع. شكراً على التّوزيع ومع فيديو قادم قريباً.
بالسلامة…