مقدمة البداء في الغنوصية
سوف نبدأ حلقات جديدة بعد المقدّمة الطويلة عن الغنوصية حول ما يطلق عليه البداء. لعل هذا الاسم غريب عن الكثير وغير معروف، ولكن هناك من يعرفه ممن درس الأديان أو أي دين كان فهم يتكلمون دائماً عن البداء أو عن البداية.
الحديث عن البداء هو جدّاً مهم خاصّةً في المفهوم الغنوصي لأن على فكرة البداء قامت الإيديولوجيات والفلسفات والأديان الإنسانية. فكرة البداء هي من الأفكار الأساسيّة التي جعلت الإنسان يتطوّر ويتميّز عن الحيوان وعلى كل بقيّة الموجودات التي لا تعرف معنى البداء ولا تحس به ولا تعي به، ويمكن القول أن الإنسان تميّز على كل ما حوله عندما وعى بفكرة البداء، و هي نفس الفكرة التي تقع لأي واحدٍ فينا عندما يفكّر أو يحس أنّه يجب أن يعرف فيسأل هذا السؤال الغريب و العجيب “من أين أتينا!”.
هذا السؤال الذي أرهق الإنسانية وجعلها تتصوّر وتتخيّل وتتخبّط إلى أن وعت بفكرة البداء التي كانت هي البداية ليبدأ الإنسان في البحث. بالبداء بدأ البداء. ليس هناك دين أو مذهب أو فلسفة أو إيديولوجية إلّا وتتكلّم عن البداء.
الكلّ متفق أن هناك بداية لكل شيء وعندما تكون هناك بداية بالضّرورة هناك نهاية، وعندما تكون بداية ونهاية يعني هناك محدودية، وعندما يكون هناك حدود يعني هناك زمان، وعندما يكون كل هذا يكون الشيء موجوداً فعليّاً بمفهوم المنظومة الوجودية التي نحن فيها. هذه الحقيقة لا يمكن أن ينكرها عاقل وواعي بوجوده الفعلي. يمكن أن يتغافلها أو لا يعيها أو لا يحس بها أو لا يفهمها، ولكن لا يمكن إنكارها بالنسبة لمن ينتمي للجنس البشري. فكرة البداء هي المقدّمة الأوليّة لبداية فهم الفكرة الجُّمليّة البداء وهي اللوغوس.
هذه المجموعة من الفيديوهات سوف تتحدث عن اللوغوس، واللوغوس هو البداء، ولكن لكي نفهم اللوغوس يحب أن نبدأ من أوّل اللوغوس حتى نفهمه. الذي هو بدء الوجود المادي أو بدء الوجود الإيجابي أو الوجود الفعلي. كل التيارات الكبيرة الأساسية الموجودة حاليّاً لفهم الوجود الإيجابي متفقة أن في الأوّل كان اللوغوس، أو في الأول كان البداء، ولكن تختلف في فهم و تحديد اللوغوس الذي يقوم على النظام الثنائي الذي هو واحد صفر واحد والذي يطلق عليه بالفرنسية Système binaire ولكن قبل أن نتكلم عن رأي التّيّارات الأساسيّة في فهم اللوغوس الذي هو البداء الجُّملي يجب أن نقوم بمقدّمة للمستمع المتابع عن مفهوم البداء لغويّاً انطلاقاً من الإطار الفكري للغة التي نستعملها لنقل المعلومة وهي اللّغة العربيًة المرتبطة ارتباطاً كبيراً بالدين الإسلامي.
للعلم أن الغنوصية الأصلية أو الغنوصيّة الخام موجودة في كل لغات العالم وكل المعتقدات وكل معتقد مرتبط بلغةٍ معيّنة. أضرب لكم على سبيل المثال حقيقة الغنوصيّة موجودة في الدين اليهودي المرتبط باللغة العبريّة التي هي لغة ساميّة قديمة يتكلّم بها الشّعب اليهودي فيما بينهم رغم أنّ موسى الذي يُعتبر أبو الدّين اليهودي تربّى في قصر فرعون وعاش في مصر على حسب التّاريخ اليهودي.
مقدّمة البداء في الغنوصية
إذاً كان يتكلّم اللغة المصرية لكن دعوته كانت لليهود فقط. إذاً من يريد أن يفهم الغنوصية الأصلية من اليهودية من الأفضل أن يكون مولوداً على اللغة العبريّة، أي اللغة العبريّة كانت لغة أمّه. على سبيل المثال لا أقول إن من لا يعلم العبرية لن يمكن له أن يفهم الكابال ولا أقول من تعلّم العبريّة لا يمكن له أن يفهم الكابال، وإنّما أقول من ولد ولغة أمّه العبريّة ودرس الكابال أو الغنوصية الأصلية في اليهودية سوف يكون أكثر حظاً وأكثر فهماً من غيره.
نفس الشيء بالنّسبة للغة الأصليّة للمسيحيّة وهي اللغة الآراميّة وهي أيضاً لغة ساميّة ولكن المسيحيّة ارتبطت أيضاً باللغة القبطيّة التي هي امتداد للغة المصريّة القديمة، ولقد وجدنا أقدم مخطوطات غنوصيّة مسيحيّة باللغة القبطيّة في نجع حمادي في مصر. أمّا اللغة اللّاتينيّة التي عرفت بها المسيحيّة في أوروبا فهي بعيدة كل البعد عن الأصل الغنوصي للمسيحيّة. اللاتينية تحتوي على الغنوصيّة من الأديان الأوروبيّة القديمة مثلها مثل اليونانيّة وغيرها.
أي أن الدّين المسيحي في أوروبا هو دخيل عنها ولا يمكن له يتأقلم وينتشر إلًا عندما تتحوّل المعتقدات الغنوصية للدّيانات القديمة الأوروبية إلى المسيحيّة. إذاً المسيحية الأوروبية اللّاتينيًة الموجودة في أوروبا لا علاقة لها بالمسيحيّة التي جاء بها المسيح. نفس الشيء من يريد معرفة الغنوصيّة الخام في ديانات الشرق الأقصى مثل الفيديّة والهندوسيّة والبراهميّة والبوذيّة يجب أن يكون مولوداً على اللّغة السنسكريتيّة، رغم أنّها لغة مثل اللّاتينيّة والعربيّة تنحدر منها لغات كثيرة لكن قليل من يتكلّمها إلى الآن، وأغلب لغات الهند الآن تنحدر من اللغة السنسكريتية.
الذي أردت أن أقوله من كل هذا هو لو أردت أن تتعلّم الغنوصيّة يجب أن تتعلّمها على اللّغة التي تحس بها وتشعر بها أكثر وتلمس إحساسك ومشاعرك. الغنوصيّة لا يمكن أن تترجم والتّرجمة تُفسدها لأنّها حسيّة شعوريّة في الدّرجة الأولى. الغنوصيّة تقول: لا تذهب بعيداً للبحث عن الحقيقة أو عن الفهم لأنّ كل شيء حولك وفيك.
من يتصوّر أنّه يجب أن يتعلّم لغة أخرى لفهم الغنوصيّة أو يدرس علماً معيناً للوصول إلى الحقيقة الغنوصية فهو لا يقوم إلّا بتضييع وقته لأن أي لغة يتقنها مهما كانت أكيد فيها الغنوصيّة الخام عليه أن ينتبه فقط لما وُجد عليه. الشيء نفسه بالنّسبة للأديان والمعتقدات التي ولدنا عليها لا نحتاج إلى اعتناق دينٍ آخر فكل الأديان نفس الشيء، كلّها قشور للغنوصيّة. الغنوصيّة هي الخروج من القشور إلى اللّب وليس الخروج من قشرة إلى قشرة.
مثل من يعتقد في دينٍ جديد أو مذهب جديد يتصوّر أن فيه الحقيقة. كل الأديان والمعتقدات والإيديولوجيات مهما كانت ما هي إلّا قشور. صحيح أن كل قشرة فريدة من نوعها مثل أن كل لغة فريدة من نوعها. اللّغة أو الكلمة هي عبارة على قشرة لحسٍ معيّن.
الحس هو المهم ليس اللّغة. تقول الكلمة بأي لغة أردت المهم أنك تحس بها وتشعر بها وهذا الإحساس هو نفسه عند الجميع. أوروبا فهمت أن المسيحيّة اللاتينية هي كذبة فعادت إلى أصولها اللاتينية اليونانيّة عادت إلى الأسطورة والدّيانات والمعتقدات الأوروبية القديمة إلى الفلسفة الأوروبية وغيرها ووجدت نفسها.
من الأفضل البقاء على ما هو لديك والبحث من حولك وتتطوّر من الواقع الذي أنت فيه على أن تقلّد غيرك أو تستعير من غيرك فتضيع وقتاً كثير قبل أن تصل إلى ما تريده، وتعلمون أن حياة الإنسان قصيرة يجب على الإنسان أن يستفيد منها أكثر شيء ممكن، كما يقول المثل التّونسي “اللي يتبع خطوة الحمام ينسى خطوتو”. أقول كل هذا الكلام من أجل أن تنتبهوا جيّداً إلى هذه النّقطة المهمّة من البداية. الحلول فينا وما حولنا سواء كأشخاص أو كمجموعة أو كشعوب.
نحن لسنا بحاجة إلى الذّهاب بعيداً لكي نصل علينا فقط الانتباه؛ كالقصة عن الشخص الذي حلم في المنام أن هناك كنزاً كبيراً في أحد الآبار، فذهب يبحث عنه في كل مكان ولم يجده فعاد أدراجه خائباً وعندما عاد إلى بيته اكتشف البئر في أرضه إلّا أنّه لم يكن منتبهاً إليه.
وأقول هذا الكلام أيضاً لمن يتبع التّجارب الرّوحيّة لغيره وينسى التجارب التي بين يديه خاصّة اتباع الهنود الذين حولوا البحث عن الحقيقة إلى سلعة وتجارة وغزوا بها العالم لأنهم يعلمون أن الإنسانية متعطشة ومتشوقة للروحانيات والغريب أن نجد أن شعوبنا وغير شعوبنا يتبعونهم ويرددون مثل الببغاء كلماتهم وحركاتهم ويدعون أنّهم وصلوا للحقيقة ووصلوا للسّلام النّفسي والرّاحة وهم في الحقيقة وصلوا إلى عيش فيلم هندي لا أكثر ولا أقل.
خرجوا من القشور وذهبوا إلى قشورٍ أخرى لا تختلف عمّا هم عليه إلّا في الشّكل، فكلما تجده في الهنود بالرّوحانيات تجده في الصّوفية التي هي منّا وإلينا ويمكن أن نفهمها ونحس بها ونشعر بها وليس في حاجة أن نلبس مثل الهنود أو نتدروش مثلهم ولا أن نتبعهم فهم لا يقدمون لنا شيئاً إلّا مضيعة للوقت والوهم والضياع أكثر حتى تنتهي الحياة ونتصوّر أننا وصلنا ونحن لم نبارح مكاننا، وهذا لا ينطبق على الهنود فقط وإنّما ذكرتهم هم بالذات لأنهم الآن هم الذين يحتكرون المعرفة ويتاجرون بها أكثر من غيرهم.
طبعاً لا أقول إن الإنسان لا يجب أن يتعلّم من غيره وأن يتعلّم أموراً جديدة وإنّما أتكلم فقط في المجال الحسي ليس المعرفي، لا أتكلم إلّا في المعرفة الغنوصيّة وليس في العلوم الأخرى حيث كل واحد له خياراته وما يحب، وإنما أتكلم عن المعرفة الحسيّة يجب أن تكون من البيئة التي وجدنا فيها ومن الإطار الفكري الذي تربينا عليه وأحسسناه ونشعر به.
إذاً وصلنا إلى نهاية الفيديو المقدمة للوغوس أو البداء حيث حددنا من أين سوف نبدأ وهو استعمال اللغة العربيّة بكل دارجاتها كإطارٍ فكري للمعرفة واستعمال الدّيانات الابراهيمية التي انبثقت من هذه المنطقة والتي يطلق عليها قلب العالم وهي الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا رغم كل الاختلافات العرقية التي بينهم ،فهم مزيح من كل الأعراق الإنسانية الثلاثة الأساسية؛ وهي الجنس الأبيض والأسود والأصفر حيث ظهر من هذه الأجناس الرئيسية أجناس أخرى كثيرة.
ولكن منطقة الشرق الأوسط تجمع كل الأجناس لأنها ممر ولأنها جاءت في الوسط ولأنها مفترق طريق وكل الحضارات الإنسانية الأخيرة انطلقت من هذه المنطقة رغم أنّها اليوم في الحضيض ورغم أنها كانت ملهمة لكل الشعوب و الأجناس الأخرى وهي الآن تبحث عن حل من السماء أو من الأرض أو من عند الشعوب و الأجناس الأخرى، ولا تعلم أن الحل والمخرج منها و فيها وما عليها إلّا أن تنتبه. إذاً هكذا وصلنا إلى آخر الفيديو ومع فيديو قادم.
شكراً على الاستماع، شكراً على التّشجيع، شكراً على التّوزيع وبالسّلامة.