يا ليتني لم أقل لا

في عام 2005، تطوّعت للعمل في دارٍ للعجزة في هولندا، حيث كانت مهمّتي أن أخفّف عنهم وطأة الوحدة، سواء بالدّردشة معهم أو بإخراجهم في نزهاتٍ على كراسيهم المتحرّكة إلى الأماكن التي يحبّون الذهاب إليها. من بين أولئك الذين قابلتهم، لا تزال قصّة العجوز كريستينا محفورةً في ذاكرتي، فقد كانت تُردّد جملةً واحدةً كلّما تكلمت، وكأنّها تلخّص كل حياتها في تلك الكلمات:

“يا ليتني لم أقل لا.”
“يا ليتني شربت معه القهوة.”

كان فضولي يدفعني دائمًا لمحاولة فهم سرّ هذه الجملة التي تكرّرها كريستينا بحسرة، وعيونها دامعة، ولكن عبثًا حاولت… لم تكن تتحدث كثيرًا، كانت تُفضّل الصمت والتنهيدات الطويلة، وكأنّها تعيش في عالمٍ آخر، عالمٍ من الذكريات المليئة بالندم.

زيارة غير متوقّعة

في أحد الأيام، زارتها امرأة مسنّة برفقة زوجها وأولادها. كنت في دهشةٍ كبيرة، إذ لم يسبق أن رأيت أحدًا يزورها، ولم أكن أتخيّل أن لكريستينا أصدقاء أو أقارب.

بعد انتهاء الزّيارة، التقيت بالمرأة في الكافتيريا، وعلمت أنّ اسمها ماريا، وأنها كانت الصديقة الوحيدة لكريستينا. أخبرتني أنّها لم ترها منذ سبعين عامًا، وأنّ كريستينا لم تتزوّج قط، ولم يكن لها أولاد، بل عاشت وحيدةً طوال حياتها.

حينها، لم أتمالك نفسي وسألتها مباشرةً عن سرّ الكلمات التي تكرّرها كريستينا دائمًا:
“ليتني لم أقل لا.”
“ليتني شربت معه القهوة.”

فجأة، لاحظت تغيّر ملامح زوج ماريا، الذي انسحب من الحديث واتّجه إلى الحديقة بصمتٍ مفاجئ. ارتبكتُ من ردّة فعله، لكن ماريا نظرت إليّ بحزنٍ قائلةً:

“ليس من حقّك أن تسأل عن هذا.”

زادني ردّها فضولًا، فسألتها لماذا؟ التزمت الصّمت لبرهة، ثم أطلقت تنهيدةً عميقة، وكأنها تسترجع ذكرياتٍ ثقيلة، قبل أن تروي لي القصة الحقيقية وراء تلك الكلمات.

قصة الندم الأبدي

قبل أكثر من سبعين عامًا، كانت ماريا وكريستينا طالبتين في المدرسة الثانوية، وكان هناك مقهى صغير بالقرب من المدرسة، يعمل فيه شابٌ يُدعى بيار.

كان بيار شابًا لطيفًا، وكان معجبًا بكريستينا حدّ العشق. لم يكن يفوّت أي فرصةٍ لدعوتها لشرب القهوة معه، لكن كريستينا كانت دائمًا ترفض، دون أي سببٍ واضح.

مرّت السّنوات، وجاء آخر يومٍ للدّراسة. في ذلك اليوم، جاء بيار حاملاً باقةً من الورود، مهنئًا الفتاتين بنجاحهما. وللمرة الأخيرة، كرّر دعوته لكريستينا لتشاركه فنجان قهوة.

وكعادتها، رفضت كريستينا الدعوة، بل رفضت الورود أيضًا! أمّا ماريا، فقد قبلت الورود وذهبت مع بيار إلى المقهى.

هذا القرار غيّر مجرى حياتهما بالكامل.

قرار لحظة غيّر العمر

استشاطت كريستينا غضبًا من ماريا، وهدّدتها بقطع صداقتهما. لم تأخذ ماريا تهديدها على محمل الجد، لكنها تفاجأت عندما نفّذت كريستينا وعيدها، ولم تتحدّث معها مرّةً أخرى.

في المقابل، بدأت ماريا تلتقي بيار في المقهى بانتظام، وتحوّل تعارفهما إلى حبٍ حقيقيّ، ثم إلى زواج، ثم إلى عائلةٍ وأطفال.

أما كريستينا، فقد ظلّت متمسكةً بقرارها، ورفضت أي فرصةٍ للحبّ، وظلّت وحيدةً حتى دخلت دار العجزة.

سنواتٌ طويلة مرّت، لكن عندما علم ماريا وبيار أن كريستينا باتت تعيش وحيدةً في دار المسنّين، قرّرا زيارتها… لم يكن بيار مجرّد “زوج صديقتها القديمة”، بل كان ذلك الشاب الذي رفضته يومًا، والذي ربما كان حبّ حياتها الضائع.

لم يعرفا أبدًا أنّها ندمت، ولم يسمعا قطّ جملتها المتكررة… حتى طرحتُ أنا ذلك السؤال.

نهاية حزينة… ولكنها متوقّعة

بعد بضعة أشهرٍ فقط من تلك الزيارة، توفيت كريستينا.

تركت وراءها قصةً موجعةً عن الفرص الضائعة والندم الذي لا ينتهي… كانت حياتها تلخَّص في تلك الكلمات التي لم تفارق شفتيها:

“يا ليتني لم أقل لا.”
“يا ليتني شربت معه القهوة.”

ربما، في حياتنا جميعًا، لحظاتٌ نتمنّى لو أننا لم نقل فيها “لا”، فرصٌ رفضناها بحماقة، وندمٌ يلاحقنا سنواتٍ طويلة…

لكن السؤال الحقيقي هو: هل سنتعلّم من قصّة كريستينا؟ أم أننا يومًا ما، سنجد أنفسنا نردّد الجملة ذاتها؟

يمكنك القراءة أيضًاهل في تونس رجال؟

Pin It on Pinterest