يا ليتني لم أقل لا
في هولندا عام 2005، تطوّعت للعمل في دار للعجزة، وكانت مهمّتي أن أخفّف عنهم الشّعور بالوحدة؛ سواء بالدّردشة أو بإخراجهم للتّنزه على كرسيٍ متحرك إلى الأماكن التي يحبون الذّهاب إليها. أستحضر الآن أحد القصص التي شاركتها معهم وهي قصّة كريستينا البالغة من العمر 86 سنة.
تلك العجوز التي لطالما أحبت الخروج والسّرحان في أفكارها، كثيرة التّنهد قليلة الكلام وإذا ما تكلمت تردّد على الدوام تلك العبارات التي لا يمكن أن أنساها: “يا ليتني لم أقل لا”.”يا ليتني شربت معه القهوة”.
دفعني الفضول لاستخدام كل الطّرق، لأعرف سرّ هذه الجّملة الّتي تكررها دائما بحسرةٍ و عيونٍ دامعة و عبثاً فعلت…
دارت الأيام ليأتي يومٌ جاءت فيه صديقتها مع زوجها وأولادها لزياتها وكنت في دهشةٍ إذ لم يصدف أن زارها أحدٌ سابقاً ولم أكن أتخيل أنّ لكريستينا أصدقاء.
هكذا وبعد أن انتهت الزيارة اغتنمت الفرصة في الكافتيريا وتعرّفت بصديقتها ماريا وزوجها متبادلين أطراف الحديث. أخبرتني ماريا أن ليس لها صديقة غيرها رغم أنّها لم ترها منذ 70 سنة، وأنّ كرستينا عاشت وحيدةً ولم تتزوج قط وليس لها أولاد.
هنا طرحت سؤالي الفضولي عن سرّ عبارات كرستينا المتكرّرة:” ليتني لم أقل لا”. ” ليتني شربت معه القهوة”.
هذا السّؤال الّذي كان كفيلاً بأن يغيّر لون وملامح وجه زوجها وقاد به منسحباً بصمتٍ إلى الحديقة. مصدوماً بردّة فعله أجابت ماريا أنه ليس حقي أن أطرح هذا السؤال، وبتعجبٍ أكثر سألتها عن السّبب.. ليقع بين سؤالي وجوابها صمتٌ طويل وتنهداتٍ عميقة أخرجت من صدرها الحكاية.
أخبرتني ماريا أنه قبل أكثر من 70 سنة كانت تدرس هي وكريستينا في نفس الثّانوية وأنه كان هناك قرب المدرسة مقهىً يعمل فيها شابٌ اسمه بيار. كان بيار معجباً بكريستينا ويحبها جداً، ولم يفوّت فرصةً يعزمنا بها لنشاركه القهوة، ولكن كريستينا كانت دائماً ترفض…
ومرت السّنوات وجاء آخر يوم من الدّراسة وجاء معه بيار حاملاً الورود لنا بمناسبة نجاحنا وكرّر دعوته لنا لمشاركته فنجان قهوة…
وكعادتها كريستينا رفضت الورد والدعوة، إلّا أنّني لم أجد سبباً للرّفض هكذا قبلت الورد وذهبت مع بيار ملبيّةً دعوته اللّطيفة. هذا كان سبباً لتستشيط كريستينا غضباً وتهدّدني بإنهاء صداقتنا.
لم آخذ تهديدها على محمل الجّد لكنّه حصل فعلاً. ازدتُ تردداً على المقهى لمقابلة بيار، وتوثّقت علاقتنا لتشكّل حبّاً أدى للزّواج وأثمر بطفلين…
بينما بَقيت كرستينا حياتها كاملةً وحدها. إلا أن علمت أنا وزوجي بيار أنّها في دار العجزة هكذا قدمنا لزيارتها.
هذه باختصار القصّة، ولم أكن أعلم أنها ندمت على فعلتها إلا عندما سألت انت السؤال. قصةٌ حزينة بالفعل، ماتت كريستينا بعد هذه الزّيارة بعدّة أشهر.
0 تعليق