كذبة الوحي

على مرّ التاريخ، سعى الإنسان إلى فرض سيطرته على الآخرين، إما بالقوة أو عبر استخدام مختلف الحيل، سواء كانت مالية أو سياسية أو دينية. ومن هنا نشأت فكرة الوحي كوسيلة للتحكم بالجماهير؛ إذ يمكن لأي شخص أن يدّعي أنه مُوحى إليه دون أن يكون قادرًا على إثبات ذلك، كما لا يستطيع الآخرون نفيه أو دحضه بشكل قاطع. وكما يُقال: “يولد الدين عندما يلتقي المخادع بالساذج”، فمن الطبيعي أن نجد من يصدق هذه الادعاءات، خاصة عندما يؤمن صاحبها بكذبته، وتزداد قوتها كلما تزايد عدد المُعدَمين المستعدين لتصديق أي شيء يمنحهم الأمل في الخلاص.

الوحي كأداة للثورة

لطالما كانت فكرة المقدس أداة للتغيير الاجتماعي، تُستخدم عندما تعاني الشعوب من القمع والاستبداد. فكلما ظهر طاغية متسلط، وجد الوحي بيئة مثالية لقيادة ثورة تقلب موازين القوى، من خلال تحريض الجماهير المظلومة ضد حكامها. وعندما تواجه إمبراطورية قوية غير عادلة، لا يمكن إسقاطها إلا من خلال استدعاء “سلطة خارجية” عبر فكرة الوحي، لتحفيز الناس وإقناعهم بأنهم ينفذون إرادة إلهية. فمن لا يملك شيئًا، ليس لديه ما يخسره.

الأديان، عبر التاريخ، وُجّهت إلى الفقراء والمضطهدين، ليس لتخفيف معاناتهم بل لاستغلالها، وتحويلهم إلى وقود لثورات تقودها السلطة الدينية باسم الله. فتُمنح الجماهير الأمل في التضحية بأنفسهم مقابل حياة أفضل بعد الموت، وهو الوعد الذي طالما أثبتت التجربة أنه مجرد وهم، حيث ينتهي بهم الأمر عبيدًا للدين ورجاله.

اختراع الأديان: بين الروحانية والسياسة

خلق الإنسان فكرة الإله لتخفيف ألمه وإيجاد أمل في مواجهة الحياة، ومن هنا ظهرت الأديان الإبراهيمية واحدة تلو الأخرى، كما لو أنها نشأت بالصدفة داخل نفس السلالة البشرية. في الواقع، الدين ليس سوى اختراع بشري خالص، يمكن تصنيفه ضمن نموذجين رئيسيين:

  1. الأديان الطبيعية:
    وهي الأديان التي ظهرت للإجابة عن الأسئلة الميتافيزيقية الوجودية التي لطالما حيّرت البشر، مثل معنى الحياة والموت. هذه الديانات، مثل البوذية والصوفية، لم تكن تهدف إلى السيطرة السياسية، بل سعت إلى تخفيف معاناة الأفراد ومنحهم بُعدًا روحانيًا لحياتهم اليومية. إنها تعتمد على التأمل والبحث الداخلي، بعيدًا عن أي طموح في الحكم أو فرض العقائد.

  2. الأديان السياسية المصطنعة:
    على النقيض من الأديان الطبيعية، ظهرت أديان أخرى بُنيت عمدًا لتحقيق أهداف سياسية، مستخدمة العاطفة الإنسانية والمآسي الاجتماعية للسيطرة على العقول. هذه الأديان لم تنشأ من تأملات فلسفية، بل تم تصميمها بوعي، لخدمة أهداف سلطوية باسم “الإرادة الإلهية”. والأديان الإبراهيمية مثال واضح على ذلك، إذ تشترك جميعها في كونها جاءت من سلالة واحدة، حيث لا يوجد نبي مزعوم إلا وكان من نسل إبراهيم، وكأنها وُرّثت داخل عائلة واحدة لتأسيس هيمنة دينية.

الهدف الخفي: السيطرة العالمية

هذه الأديان ليست مجرد معتقدات شخصية، بل هي مشاريع سياسية ذات طابع توسعي. فهي لا تهدف فقط إلى السيطرة على منطقة معينة، بل تطمح إلى بسط نفوذها عالميًا، من خلال القضاء على جميع القوى التي تعارضها، سواء كانت جماعية أو فردية. وهذا ما يجعلها خطرة، ليس فقط على الأفراد الذين يسعون للتحرر منها، ولكن أيضًا على الأنظمة التي تحاول الحفاظ على استقلالها عن السلطة الدينية.

رجال الدين: حراس المعبد

مع غياب الأنبياء، أصبحت المؤسسات الدينية هي الحامية لهذه العقائد، وظهر الحاخامات والكهنة والأئمة كحراس للمعبد، يخدمون مصالحهم السياسية والاقتصادية والعسكرية تحت غطاء الدين. فالدين لم يعد مجرد وسيلة روحية، بل تحول إلى أداة للنفوذ والقوة، حيث يتم تسخير الإيمان لخدمة أجندات السلطة.

الاستثناء: التيار الصوفي

رغم الطابع السياسي الجارف للأديان الإبراهيمية، فإن هناك استثناءً نسبيًا يمثله التيار الصوفي داخل هذه الديانات، فهو أقرب إلى الأديان الطبيعية من حيث تركيزه على الجانب الروحي وتجنبه التورط في السلطة السياسية. ومع ذلك، فإنه لا يمثل إلا أقلية ضمن المشهد الديني، مقارنة بالغالبية التي تنتمي إلى الأديان التوسعية الطامحة لحكم العالم.

الخاتمة

إن فكرة الوحي ليست سوى كذبة استُخدمت على مر التاريخ للتحكم في البشر، مستغلة حاجتهم للإجابات والمواساة. بينما قد تكون بعض الأديان الروحانية وسيلة لتخفيف معاناة البشر، فإن الأديان السياسية لا تهدف إلا إلى السيطرة، مستغلة الإيمان لتوسيع نفوذها. واليوم، في ظل غياب الأنبياء، يستمر رجال الدين في إدارة هذا المشروع، بما يخدم مصالحهم، بينما تبقى الجماهير مجرد أدوات لتحقيق هذه الهيمنة.

وفي النهاية، يجب التساؤل: هل الدين حقًا وحي إلهي، أم أنه مجرد أداة سياسية تم تكييفها عبر العصور للسيطرة على العقول؟

Pin It on Pinterest