اللادينيون في تونس ومشاركتهم في الحياة السياسية
مما لا شك فيه أن التّيار اللاديني الإنساني المدني في تونس هو ظاهرةّ جديدة على السّاحة السياسية، حيث بدأ يظهر ويتحرك بعد الانتفاضة التونسية 2011، ولكن هذا لا يعني أنه لم يكن موجوداً من قبل، فلطالما كان موجوداً ولكن على شكل أفراد ومجموعات صغيرة ليس لها تأثير وأغلبها من الطّبقة المثقفة التي لا تعلن عن نفسها صراحةً وتبتعد كليّا عن الحياة السياسية وتفضل غالباً الهجرة خارج تونس للعيش حياة كريمة بعيداً عن التّستر كي لا تتهم بالكفر.
مع تزايد أعدادهم خاصةً في العشرين السنة الأخيرة وخاصة بعد القسط من الحرية التي حصلت عليه تونس في السنوات الأخيرة، أصبح لهؤلاء وزنٌ داخل الجمعيات المدنية والحياة الاجتماعية التونسية وحتى بنسبة ما في الحياة السّ
ياسية ولكن تحت سقف الأحزاب السياسة الموجودة سابقاً. في عام 2014 كان هناك محاولة لجمع اللادينيين تحت حزب موجود سابقاً تم تبديل اسمه، لكنّ المحاولة لم تنجح وذلك لأن رئيس الحزب الّذي اشترى الحزب وحاول جمع اللادينيين لا علاقة له باللادينية اصلا. كان مجرد سمسارٍ فساد أراد المتاجرة باللادينيين من أجل مصالحه الخاصة الغير شريفة، وهذا حال أغلب السّياسيين المتواجدين في تونس مهما كان توجّههم فهم يتاجرون بالإسلام والقومية والوطنية… وما الذي يمنعهم من المتاجرة باللادينية خاصّة بعد ان أصبحا لها وزناً؟ وهذا ما فعل، ولكن انسحب اكثرهم ووقع التشتت.
دعونا يا أصدقاء نحاول قراءة الوضع السّياسي في تونس والتيارات الموجودة على السّاحة وكيف تعامل معها اللادينيون خلال السّنوات الأخيرة إيجاباً وسلباً، وما هي آفاق المستقبل المطروحة والمخارج التي تسمح لهم بأن يكون لهم مشاركة فعالة في بناء مستقبل تونس، خاصةً بعد ما أصبح لهم اليوم وزنٌ لا يستهان به، ويعتبرون صوت المستقبل الإنساني المشترك الّذي هو مستقبل البشرية بعيداً على التّجاذبات الأيديولوجية والدينية والقومية…
إذا ما عدنا لتاريخ قبل الاستقلال عندما بدأت الحركة الوطنية بالتّشكل والتي كانت تطالب بالاستقلال العسكري ورفع الحماية الفرنسية التي جاء بها الأتراك المستعمرون لتونس في ذلك الوقت؛ حيث أنّ الباي وحاشيته والمقرّبين إليه من الفرانكوفيين والأثرياء والمثقّفين كانوا مع فكرة بقاء الحماية الفرنسيّة في تونس وضدّ التحدث عن أي استقلال مهما كان.
نرى في شهر مارس سنة 1920 بداية ظهور أول حزبٍ وطني تونسي تحت اسم الحزب الحر الدّستوري التونسي الذي تطور عن حركة الشباب التونسي التي نشطت وقُمعت قبيل الحرب العالمية الأولى.
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وسقوط الخلافة العثمانية بدأت تظهر في العالم حركة ضد الاستعمار وتطالب بتحرر الشعوب وحقها في تقرير مصيرها بالإضافة إلى تنامي حركات التحرّر في العالم. قام العديد من الشباب الوطنيين التونسيين بالتحرك والتقدم بعدد من المطالب الوطنية بقيادة عبد العزيز الثعالبي بالإضافة إلى العديد من الشخصيات مثل صالح فرحات، محيي الدين القليبي، أحمد توفيق المدني، أحمد الصافي، أحمد السقا، علي كاهية، محمد المنصف المنستيري والحبيب زويتن… وكانت أهم أربع مطالب تقدموا بها:
- إرساء نظام دستوري
- الفصل بين السلط الثلاث
- ضمان الحريات والمساواة
- إجبارية التعليم
وهي مطالب وُجهت للحكومة الفرنسية وتحت الاعتراف بنظام الحماية، حيث أن تلك المطالب لم تجد لها صدى لدى السّلطات الفرنسية بل أدت إلى انشقاقات في الحزب أضعفته من الداخل، هذا وقد ضغطت فرنسا على مؤسس الحزب ليغادر تونس.
رغم ذلك وصل أنصار الحزب العمل في عدة مجالات ولم يضعف غياب الثعلبي من الحركة الشبابية التي كانت تأمل بالتغيير أكثر من الاستقلا الكامل.
في مؤتمر الحزب في شهر ماي سنة 1933 ضم الحزب كثيرا من العناصر الشّبابية من بينهم محمود الماطري والحبيب بورقيبة الّذين لم تعجبهم سياسية الحزب التي تكتفي بالعمل تحت نظام الحماية الفرنسية دون المطالبة بالاستقلال الفعلي عن فرنسا وحق التونسيين بالسّيادة على وطنهم. أدّى ذلك لانسحابهم مع كثيرٍ من شباب الحزب الفعال ليؤسسوا في 2 مارس 1934 حزبا جديداً عُرف باسم الحزب الحر الدستوري الجديد متميزاً بذلك عن الحزب القديم.
في سنة 1937 عاد عبد العزيز الثعالبي إلى تونس ووقعت محاولةٌ لتوحيد الحزبين ولكنها لم تنجح، وتحولت إلى صراعٍ مفتوح بين الحزبين إلى أن وقفت الحماية الفرنسية مع الحزب الدستوري الحر القديم وسجنت قادة الحزب الدستوري الجديد وعلى رأسهم الحبيب بورقيبة.
شارك الكثير من قادة الحزب القديم خلال الحرب العالمية الثانية في حكومة الباي وقُدمت لهم مناصب وزاريّة. طالب الحزب بعد انتهاء الحرب و في اوت 1946 بقيادة القاضي العروسي حداد إلى جانب الحزب الدستوري الجديد والاتحاد العام التونسي للشغل والمستقلين والزيتونيين بالاستقلال التام عن فرنسا.
لم تفلح كل محاولات استعادة الساحة السياسية التي بذلها الحزب الدستوري الحر القديم وأخذ الحزب الدستوري الجديد يتوسع بعد أن انضم إليه كثير من الناشطين من الحزب القديم إضافةً إلى الكثير من الشّباب الفعّال والمثقف الذي أصبح يرى في المقاومة الطريق الوحيد للاستقلال الكلي عن فرنسا. كان الحزب الدستوري الجديد واضحاً في أهدافه في الاستقلال الكلي عن فرنسا واتخاذ طريقٍ ثوري من أجل تحقيق ذلك مهما كلف الأمر.
في شهر أبريل 1955 انضمت للحزب الدستوري الحر الجديد أعداد كبيرة وخاصة من الوجوه الشابة الثورية ومن الصفوة والمثقفين والفلاقة… وطبعا كثير من العناصر الناشطة والمأثرة في الحزب الدستوري القديم، وأصبحا بورقيبة الوجه البارز في الحزب مع صالح بن يوسف وشخصيات أخرى معروفة.
أنّ بورقيبة كان مبهورا بالغرب وهذا عائد إلى تعليمه الفرانكفوني، فهو محامي تكوّن في العشرينات وناضل بدوره من أجل تونس، في سنة 1934 وفي عمر الواحد والثلاثين أسّس بورقيبة الحزب الدستوري الجديد، الذي كان يطالب بالاستقلال العسكري الكلي لتونس عن فرنسا ولكنّه يعتبر في نفس الوقت فرنسا نموذجا جديرا بالاتّباع. وكحليف للغرب أعتبر تونس دولة في طريق النموّ ووجب جلب المصالح الفرنسيّة وتمثيل تونس كحليف أكيد لأوروبا. ولكن وجب أيضا الحفاظ على مبادئ المجتمع التونسي والاخذ بعين الاعتبار مكوّنات الشعب الثقافيّة والحضاريّة والتي لا يمكن أن تتوفّر الا بتوفّر استقلال إقليمي عسكريّ للبلاد.
لقد قدّمت البورقيبيّة الشيء الجديد. فكرة الاستقلال العسكري دون إحداث شرخ اقتصادي وثقافي وحّدت بين المثقّفين وبين الحداثيين والقوميين. حسب رأي بورقيبة، ما يمنع تونس من الالتحاق بمصاف الدول المتحضّرة هو الإسلام الراديكالي العتيق. يجب التقليص من أهميّة المدارس القرآنيّة وفسح المجال لتعليم على نموذج الغرب.
منذ الاستقلال وقع التركيز على تطوير نظام التعليم. المبلغ المخصص للتعليم الوطني لم يتوقّف عن الارتفاع حتى بلغ 32 في المائة من ميزانيّة الدولة سنة 1976. وأصبح التعليم عموميّا للجميع، كما أنّه إجباريّ ومجانيّ. في عهد الحماية كانت تضاهي تكلفة التعليم في تونس تلك الموجودة في فرنسا، فاقتصرت بذلك على شريحة الطبقات الثريّة والمرفّهة للبلاد، فجعله بورقيبة مبثوثا في كامل أنحاء الجمهوريّة بما فيه مناطقها الداخليّة الفقيرة.
إضافة إلى هذا، فإنّه برمج في نظام التعليم الوطني دراسة الإسلام كمادة تاريخيّة، مُقلّصا بذلك تأثير المدارس القرآنيّة. المؤسّسة العصريّة، التي أحدثها مزج فيها بين القوانين الإسلاميّة والقوانين الوضعيّة. ووضع حدّا لتأثير الدين على القضاء بإدماج دراسة الحقوق المدنيّة.
صراعاً داخل الحزب في طريقة العمل وصراعاً على القيادة خاصة بين صالح بن يوسف والحبيب بورقية، حيث أن لهذين الشقين نظرة مختلفة؛ فصالح بن يوسف أقرب للشرق ومع فكرة بقاء تونس في الحضيرة العربية الإسلامية، أمّا شق بورقيبة الذي لم يكن ضد البقاء في الحضرية العربية الإسلامية لكنّه كان يدعو للأمة التونسية حيث يرى أن الوحدة العربية لا يمكن أن تكون دون أن تستقل كل دولة على حدى وتحقق إنجازات في التقدم وتحصل على الاستقلال الكلي، و ذلك لا يكون إلّا بالقضاء على الفكر التقليدي البالي والتّعلم من الغرب وتشجيع العلم والتعليم، فمن وجهة نظرته إن معركة تونس بعد الاستقلال هي معركة ضدّ الجّهل والتخلف قبل كل شيء ولا يكون إلّا بتشجيع التعليم.
في سنة 1958 تحوّل التعليم العربي في جامعة الزيتونة نفسها من تعليم مقتصر على اللغة العربيّة وحدها إلى تعليم ثنائي اللغة.
منع تعدّد الزوجات ودعا إلى المساواة بين الجنسين متجاهلاً فقط موضوع الإرث. واقترح على النساء عدم ارتداء السفساري، اللباس التقليدي المحتشم للمراة التونسية في ذلك الوقت قبل ان يظهر الزي اللاسلامي الاخواني، وأصبح لهن الحق في الانتخاب منذ 1957 وهو شيءٌ لم يعرفه العالم الإسلامي منذ ظهوره للوجود.
هذه الإنجازات التقدّميّة، مازالت إلى يوم مصدر فخرٍ كبير للتونسيّين، فهي في النهاية صفعة قويّة للعقليّات المتحجّرة ذات الإرث الماضوي المتخلّف والرّجعي المتسبّب في الفقر والجهل.
استهدف بورقيبة أشدّ النّقاط حساسيّة في الشّعائر الدينيّة لأرض الإسلام، ألا وهي الإفطار في رمضان، ففي الخامس من فيفري 1960 وبعد مُضي ثلاثة أسابيع في شهر الصيام، توجّه بخطاب مباشرٍ لإطارات الحزب الدستوري الجديد، الحزب الوحيد في البلاد حينها، وقال لمستمعيه أنّه من حقّهم تأويل القرآن مستشهداً بالرّسول نفسه الذي أفطر شهر رمضان حتى ينتصر على أعدائه: «أنا أيضاً آمركم بالإفطار حتى تنتصروا على العدوّ. عدوّكم الآن، الفقر والحرمان والذلّ والانحطاط والتخلّف… في اللحظة التي نفعل فيها نحن المستحيل للزيادة في الإنتاج، يسقط خلال شهر كامل كلّ ما شيّدناه وتبلغ قيمة الإنتاج مستوى الصفر… إذا كنتم عسكريّين أو موظّفين أو طلبة… أطالبكم بالالتزام بواجبكم… ساعات العمل الإداري والتوقيت المدرسي لن تتغيّر من أجل رمضان… أنا لا أفعل إلا تأويل النّص القرآني وأعلن أنّ هذا رأيي الشخصي وإذا كنتم لستم مقتنعين به، فأنتم أحرار في عدم تبنّيه…»
هكذا قدّم بورقيبة تأويله الخاص للإسلام وهو رأي أثّر فيه مؤمنون آخرون تتماشى أفكارهم ومفهوم التطوّر. فبالنسبة له حارب محمد من أجل قبائل متطاحنة ومتحاربة فيما بينها، أمّا حربه هو وحرب الشعب التونسي فهي ضدّ الجهل والخرافات.
ورغم المظاهرات التي اندلعت ضدّ إفطار شهر رمضان في 17 جانفي 1961 وخاصّةً في مدينة القيروان والتي اتخذت منحىً دمويّا، فقد طالب بورقيبة مواطنيه في فيفري في نفس السّنة بترك الصيام ومقاومة التّخلف وفي شهر مارس وأثناء فترة الصّوم بالذات، شرب كأس عصير برتقال في بثٍ مباشر على التلفاز في وضح النهار.
منذ ذلك اليوم التاريخي لم تأتِ الجُرأة من أيّ قائدٍ مسلم أو زعيم لدولة مسلمة أن يهزّ التّقاليد تلك الهزّة التاريخيّة.
لقد طوّرت هذه السياسة من التونسيين وأصبح بورقيبة يُعرف كأبٍ لتونس الحديثة، ولكنّ هذه السياسة أيضاً هي ما تسبّب في قُرحة حارقة في معدة المحافظين والإسلاميين والعروبيين. رأى شيوخ الزيتونة في ذلك خلخلة مزعجة لقبضتهم الدينيّة المسيطرة على جموع الشعب. كان بورقيبة في نظرهم عدوّ الله وباع البلد إلى الغرب وسوف يهدم الهويّة العربيّة الإسلاميّة ويجتثّ جذور شعبنا.
متناسين أنّ تاريخ تونس ليس محصوراً بالفترة الإسلاميّة العربية، التي على العكس، لم تفعل إلاّ أن قطعت تونس عن جذورها الأمازيغية وتاريخها المتعدّد الثقافات والحضارات لتفرض عليها ثقافة وحيدةً، هي ثقافة دين العرب والاسلام العروبي.
ظهرت في تلك الفترة أيضاً ما يُعرف بتيّار القوميّة العربيّة القادم من مصر، وهو من أشدّ المعارضين لبورقيبة وسياسته ولكن الأخير ربح المعركة ودمّر ما يُسمى بالحركة اليوسفيّة «صالح بن يوسف» الذي أراد أن يزرع نواة العروبيّة من جديد في تونس بعد أن زُرعت في العديد من البلدان الأخرى.
فضل بورقيبة التّقدم والتّطور كأولية على توحّد العالم العربي، أراد أن تكون المعركة معركةً ثقافية واقتصاديّة، فبعد معركة التعليم والنّجاح فيها، كما النّجاح في المعركة الاقتصاديّة، كان يحضّر لشعبه مرحلة ثالثة وهي الديموقراطية.
يمكننا أن نقرأ تاريخ بورقيبة على أنّه تاريخ الأب الصّعب لتونس، بتعبيرٍ آخر هو ديكتاتور جيد في البداية يوجّه البلد نحو هدف واحد : إنشاء بلد ذو سيادة ضمن حدوده الترابية والجغرافية.
كانت تونس قبل انتصاب الحماية الفرنسيّة تنتمي للامبراطوريّة العثمانيّة وكانت نوعا ما ولاية مستقلّة. أحدث الوزير خير الدين باشا تغييرات جذريّة على نظام التّعليم، حتى تنفتح البلاد على الغرب بغرض الاندماج في منظومة أسواق الدول الغربيّة وهذا ما شجّع فرنسا لفرض حمايتها على تونس في ما بعد وبالتالي كان للفرنسيين تأثيرٌ كبير على عقليّة التونسيين.
رغم ذلك لم تتمكّن فرنسا في عهد الحماية الفرنسية لتونس بسبب المعارضة الشديدة للإسلاميين وعلماء الزيتونة وبفضل تسرّب العلوم الصّحيحة داخل الجامعة، فقد برزت مجموعةٌ مرموقة من المثقّفين، من أمثال محمّد الطاهر بن عاشور والطاهر الحدّاد وثلّة آخرين سعوا إلى اجتراح طريق متوازن بين ضرورتين: ضرورة التطوّر وضرورة المحافظة على الهويّة الثقافيّة. التونسيّون أنفسهم، تبنّوا إراديّا بعض ملامح الثّقافة الأوروبيّة رغم إصرار الإسلاميين على تحميل المسؤوليّة كاملة لبورقيبة.
سياسة بورقيبة رغم أنها لم تكن بالعمق التّشريعي والقانوني في مدنية الدولة وخاصة البند الأول من الدّستور الذي يجعل من تونس دولة إسلامية عربية وهذا البند فرضته فرنسا على أغلب الدّول المتكلّمة بالعربية كي تقطع الطريق أمام المد الشيوعي الذي كان يزداد بقوة في شمال إفريقيا والشرق الاوسط، لكنّه كان ذا تأثير على الطبقة المثقّفة وفي عمق المجتمع التونسي مما أقنع شريحة كبيرة من المجتمع التونسي بمشروع الحداثة. رغم أنّه أهمل المناطق الدّاخلية، لكن بالنسبة لحجم تونس يعتبر أنّه كسب حصانةً لا بأس بها من المجتمع التونسي تمنع السيطرة الكلية للفكر الإسلامي العروبي على أجهزة الدولة التونسية في ذلك الوقت.
سبّب هذا معارضةً قوية لبورقيبة وسياسته نظراً لسنّه المتقدّمة وعدم تمكنه من تحقيق مشروعه وظهور القوة الياسرية في تونس وظهور الإسلاميين والعروبيين الذي هم ورثة حركة صالح بن يوسف وشيوخ الزيتونة في السبعينات والثمانينات، فرغم عداوة بورقيبة للإسلاميين والعروبيين إلّا أنّه سمح لهم بالتّحرك والنّشاط خاصة في الجامعات لمواجهة الخطر الآخر الذي هو الخطر اليساري، فدخلت البلاد في صراعاتٍ كبيرة بين اليسار والإسلامين والبورقبيين وانتهت بالانقلاب الذي قام به بن علي بمساعدة الإسلامين ضد بورقيبة وأخذه للحكم في نوفمبر سنة 1987.
توضّح بعد الانقلاب أن الحريّة التي وعد بها زين العابدين بن علي لم تكن إلّا كذبة، فما أن استلم الحكم حتى بدأ بمحاربة أقرب الناس إليه لكي يتفرد بالسّلطة وحده.
أذكر لكم عاملين مهمين ساعدا بن علي للوصول إلى السّلطة؛ أولهما عودة تونس إلى الحضيرة العربية الإسلامية وذلك بمساعدة الإسلاميين من حركة الاتجاه الإسلامي والعربية السعوديّة، وثانيهما الوضع الصّحي السيء لبورقيبة متزامناً مع التّدهور الاقتصادي والسّياسي الأكثر تدهوراً.
تطلب الأمر 5 سنوات حتى قضى زين العابدين بن على على خصومه السّياسين وزجّ أغلبهم في السّجون، وسمح لرئيس الحزب راشد الغنوشي بمغادرة تونس، وبهذا أصبح بن علي السّيد الأول في تونس دون منافس. استقطب عائلته واستولى على كل المشاريع الاقتصاديّة في البلاد وقص أجنحة كل معارضة مهما كانت وسمح فقط ببعض الأحزاب التي يمكن له التّحكم بها كديكور يظهر فيه أن الحرية موجودةٌ بالفعل في تونس.
كل من هو بعيد عن السّاحة السّياسية أو ينظر إلى تونس من الخارج يرى أن التّحول قد حدث بالفعل في تونس، لكن القريب من السّاحة السّياسة أو من هو في الدّاخل يعلم أن كل ذلك ما هو إلّا مجرد مسرحية.
حتى سنة 1998 كنت أعتقد أن تونس بالفعل أصبحت دولةً حرة وتسير نحو النّمو الاقتصادي للحاق بركب الحضارة، وهذا ما شجعني أن أقرر العودة والاستقرار في تونس بصفةٍ نهائية؛ خاصّة بعد أن قررت أن أخرج من الاسلام وأحارب الإسلام الأرثودوكسي، وذيوله من الحركات الإسلامية، فعداوة بن علي للإسلامين هي التي حفزتني أكثر لهذه العودة. لا أكذب عليكم فقد كنت أرى أنه على نفس المسار الذي أتبعه وهو مدنيّة الدّولة وقيام دولة القانون وإبعاد الإسلامين ليس عن الساحة السياسة فقط بل حتى الاجتماعية.
احتجت حوالي السّنتين لأكتشف وضع اللّادينين في تونس، في المقاهي وخاصّة قهوة باريس أو الانترنشونال وطبعاً عن طريق الإنترنت… في ذلك الوقت كان انترنت في بداياته حيث حصلت أول قدومي إلى تونس على أول كمبيوتر وأول اتصال إنترنت. بدايةً كان أغلب الملحدين الذين تواصلت معهم من اليسار ومن المهمشين وانرشيست… ولكن مع تقدم الوقت بدأت أتعرف على أشخاصٍ مثقفين أغلبهم من عائلات كبيرة وغنية ولهم جنسيات مزدوجة، يعيشون في تونس وكأنهم لا يعيشون فيها، وليس لهم أيّ تدخلٍ في السياسية أو في ما يحدث في تونس، ولا يعلنون لادينتهم أصلاً كي لا يتعرضوا الى أي مشكال مع المحيط الذي يعيشون فيه.
في أواخر القرن العشرين الموقع الوحيد على الانترنت الذي كان يتحدث على اللّادينية هو موقع اللّادينين العرب وبعض المدونات الفردية، وطبعاً الذي كان مسيطر بطريقة غريبة على نقد الإسلام هم المسيحيون المبشرون بالمسيحية والأقباط والذي كان الأكثر شهرة فيهم في ذلك الوقت هو زكريا بطرس. أما اليسار بصفةّ عامة رغم أن بعضهم كان ملحداً ولكن معركته لم تكن مع الإسلام وإنّما مع الرأسمالية فقط، حتى عداوتهم للحركات الإسلامية لم تكن معركة دينيّة بل معركة سياسيّة حيث يعتبر اليساريون أن الإسلامين نتيجة صناعة غربية رأسمالية لا أكثر ولا أقل.
هكذا نرى أصدقائي أنّ ظهور النّواة الأولى اللادينية الإنسانية والمثقّفة في شمال افريقيا والشّرق الأوسط كانت جدا بطيئة في بدايتها ثم بدأت تنمو أكثر بعد أحداث 11 سبتمبر 2001.
في ذلك الوقت أول روّاد اللّادينية والإلحاد في شمال إفريقيا والشّرق الأوسط الذين كانوا ينقدون الإسلام كدين هو عبد الله القصيمي، شهاب الدمشقي، كامل النجار، نبيل فياض، سامي الذيب، العفيف الأخضر وابن الوراق و هو اسم مستعار لكاتب كتاب” لماذا لست مسلماً” وسلمان رشدي وتسليما نسرين وكريم عامر ومريم نمازي ومينا آحادي … وهناك آخرون يحسبون على التّيار الحداثي المثقف والذين ساهموا كثيراً في التّوعية مثل فرج فودة، حيدر حيدر، محمود محمد طه، فراس السّواح، سيد القمني، يوسف زيدان، نصر حامد أبو زيد، خزعل الماجدي ورشاد خليفة… صحيحٌ أنهم لم يكونوا معروفين في ذلك الوقت إلا من طرف المتابعين فقط، ولكن كان لهم الأثر الكبير في حدوث التّوعية والانتباه إلى الوضع الذي نحن فيه…
في بداية القرن الواحد والعشرين بدأ الإعلام يتكلم عن المرتدين عن الإسلام وتكونت جمعيّات كثيرة في عديد من الدول الأوربية مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا وبلجيكا وهولاندا وطبعاً تونس، وفي 2005 وقع مؤتمرٌ كبير في باريس جمع أهم الشّخصيات المرتدة عن الإسلام كما وقعت مؤتمرات أخرى في عديد من الدول الغربية، وبدأ فكر الارتداد عن الإسلام ينتشر في الدّول المتكلمة بالعربية وخاصّة بين المهاجرين في الخارج، كما وظهرت العديد من المجلات الإلكترونية وحتى الورقية وكثُرت المدونات والمنتديات النّاطقة بالعربية، وبدأ أعداد من يعلن خروجه عن الإسلام تتكاثر خاصةً مع ظهور اليتويوب والفيسبوك وتويتر…، فقد كانت مواقع التواصل الاجتماعي قفزةً قوية لنقد الإسلام والإعلان عن الخروج عن الإسلام. البعض أظهر تركه للاسلام والبعض الآخر فضّل السرية، فكلمة مرتد أو خارج عن الإسلام أو ملحد أو لاديني اليوم الأغلبية تعرف معانيها، لكن سابقاً لم يكن المسلمون يعرفون هذه التسميات بل كانوا يعرفون مسمىً واحداً فقط وهو كافر، ولا فرق بنظرهم بين كافرٍ وآخر.
نقد الإسلام بالّلغة العربية ومن طرف مسلمين سابقين أحدث طفرةً كبيرة في شمال إفريقيا والشّرق الأوسط وفي العالم الإسلامي، ورغم أن أعدادهم تتزايد بطريقة رهيبة خاصّة في العشر سنوات الأخيرة إلّا أن الجّهر والإعلان يعتبر أمراً صعباً لأغلبهم، وخاصّةً من يعيشون داخل العالم الإسلامي حيث لا يوجد أي قانونٍ يحميهم لا في بلدانهم ولا خارج بلدانهم، وحتى الذين يعيشون في الخارج تكون حياتهم في خطر من أقرب الأشخاص إليهم وحتى من عائلتهم لهذا يفضلون عدم الجّهر بخرجوهم من الإسلام.
تُعتبر تونس من أكثر الدّول حضارةً من الناحيّة القانونية ومن ناحية الحريات خاصّة بعد الانتفاضة 2011، حيث أصبح القول أنك غير مسلم أمر شبه مألوف اليوم، رغم أنّ الكثيرين لا يقبلون ذلك خاصة في المجتمع والعائلات. أذكر ما حدث مثلاً مع نادية الفاني وفيلم “لا ربي ولا سيدي” الذي أحدث ضجةً في بداية الانتفاضة ممّا أجبر نادية الفاني على مغادرة تونس والعيش في باريس، كما وأذكر بث إذاعة نسمة لفيلم “برسبوليس” الإيراني الذي هو بدوره أحدث ضجة كما وقعت محاكمة جابر الماجري وغازي الباجي ممّا جعلهم يأخذون اللّجوء السياسي في اوربا. خرج مئات الملحدين واللادينين من تونس، وتضاعف عددهم، ورغم أن القانون التونسي لا يحمي بطريقة فعالة اللّادينين، كل ذلك لم يمنعهم من أن ينظموا أنفسهم ويخلقون عالمهم، ورغم كل الأمور السلبية التي حصلت ورغم أن هناك من استغلهم واستعملهم لأغراض سياسية بشعة، ورغم تشتتهم بين الأحزاب يمكن اليوم أن أقول لقد حان الوقت للمّ الشّمل ووضع برنامجٍ فعّال لتوحيد الجّهود، فالأخطاء والتّجارب تحدث لكن المهم أن نتعلم منها، وهذا ما سوف نتحدث لاحقاً بعد أن عرضنا الوضع العام لحالة اللّادينين في تونس.
بعد أن عرضنا الوضع العام السّياسي في تونس من قبل الاستقلال الصوري عن فرنسا إلى اليوم، وقبل أن نتعرف باللّادينين وكيفيّة المشاركة الفعالة في الحياة السياسية والوضع الحالي، أردت أن ألمح إلى نقطةٍ مهمّة في تاريخ تونس الطويل تعود لعهد الحضارة القفصية التي كانت منذ أكثر من 10 آلاف سنة، وهي أنّ شمال إفريقيا أي تمزغا لم تعرف الوحدة السياسية رغم كل المحاولات، وذلك يعود إلى أن الأمازيغ لم يعرفوا مفهوم الدّولة ومفهوم الإمبراطورية ولا مفهوم غزو الشّعوب الأخرى، فقط النّظام الكونفدرالي هو النّظام السّياسي الذي حكم وسيطر في شمال إفريقيا؛ كل مجموعةٍ لها استقلال ذاتي وتجمعهم مصالحٌ مشتركة خاصّة في حال الغزو الخارجي، إذ كانت هذه المنطقة مطمعاً لكل الشّعوب والإمبراطوريات الّتي قامت في أوروبا أو الشّرق الأوسط على مرّ التّاريخ.
رغم كل المحاولات لمحو خصوصيّة هذه المنطقة ودمجها ضمن الإمبراطوريات الأخرى لم تنجح أي واحدة منهم في محو الهويّة الأمازيغية. فقد كانت هذه الشعوب تمتص الغازي و تتعلّم لغته وعاداته و تقاليده، وتدمجها في هويتها وتحافظ على أصلتها و خصوصّيتها.
يمكننا القول أن الصّراع على أرض شمال إفريقيا كان دائما صراعاً بين قوى أجنبية خارجية عن هذه المنطقة تبحث لها على نفوذ في شمال إفريقيا مستغلّة النّظام الكونفدرالي الّذي يحكم شعوب شمال إفريقيا لكي يكسبوا شعوباً أمازيغية حليفة وأخرى عدوة، وهذا ما نراه وضاحاً في الصّراع بين الحلف الشّرقي والحلف الغربي الّذي كانت تونس الحالية هي الحدود الفاصلة بينما.
تجربة الدّولة أو الحكم حصلت للأمازيغيين مرتين:
أولاً: عندما وصل شيشنق الأول لعرش مصر وتولى حكمها وحمل لقب الفرعون مؤسّساً بذلك حكماً لأسرته؛ الأسرة الثانية و العشرين في عام 950 ق.م ، والّتي حكمت قرابة قرنين من الزّمان. هذه العائلة الأمازيغية العريقة تنتمي للحلف الشّرقي لتمزغا. اعتلاء شيشنق العرش كان نقطة بداية التّاريخ الأمازيغي.
ثانيا: نوميديا الّتي بدأت قبل 200 سنة قبل الميلاد والّتي وقعت في مدٍ ، كرٍ وفر بين قرطاج وروما والبيزنطيين … لكن حلم نوميديا بتوحيد تمزغا الحلف الشرقي مع الغربي تحت حكم ٍ واحدٍ انتهى مع قدوم العرب من الشرق وحدوث يوم النكبة العظيم حيث قتل ديهيا وقائدة الامازيغ الذين كانوا قد خلفوا الملك كسيلة في حكم شمال أفريقيا مدة 35 سنة وتشكل مملكتها جزءً كبيراً من شمال إفريقيا وعاصمتها هي مدينة ماسكولا (خنشلة حاليا) في الأوراس.
منذ يوم النكبة ومقتل القادة الأمازيغ في معركة حامية الوطيس أثناء مجابهتهم لجيش حسان بن النعمان في موقع بالجزائر سُمي فيما بعد ببئر الكاهنة بير العاتر في 13 أكتوبر 701م، و شمال إفريقيا يعيش تحت الاحتلال العربي الأموي و العباسي ثمّ العثماني والأوربي.
يجب أن نعترف و نفهم أن شمال إفريقيا تُعتبر محتلةً منذ ذلك التّاريخ ولم تنجح رغم كل المحاولات للاستقلال لأن الامازيغ الذين أردوا الاستقلال كانوا ينتمون للّدين العروبي الإسلامي؛ فلا يمكن أن يكون هناك استقلالٌ حقيقي مع الإيمان بدين المحتل. كما نعلم أن كلمة اسلام تعني الاستسلام وكلمة الأمازيغي تعني إنسان حر، إذا لا يمكن أن تكون أمازيغي ومسلم عربي هذان متناقضان لا يمكن أن يجتمعا أبداً، ولا يمكن التّحرر والاستقلال الحقيقي بدون رفضٍ كليٍّ للإسلام العربي الأرثودوكسي الّذي يتحكّم فيه الشّرق و المدارس الدينية.
عندما ننظر إلى السّاحة الشمال إفريقية اليوم سوف نجد كل الأطراف السّياسية العالمية تتصارع فوق أرضنا من العرب وغير العرب ومن الأديان ومن المذاهب الإسلامية ومن الأيديولوجيات السّياسية… كلّها لها موقع قدم في شمال إفريقيا بينما نحن أصحاب الأرض وأصحاب البلاد والوطنيين ليس لنا أي موقع، ولا أي كلمة، ولا أي تأثير، ولا أي إمكانيات ليكون لنا رأيٌ وكلمةٌ فوق أرضنا، وحتى من يكون وطني في البداية يضطر أخيراً أن ينضم إلى طرفٍ أجنبي؛ أمريكي أو خليجي أو فرنسي أو تركي… ليحصل على موقع قدم، وهذا واضح في ليبيا وتونس اليوم و في كل شمال إفريقيا.
ليس هناك حزب سياسي واحد في شمال إفريقيا مستقلٌ ووطني 100/100 سواء في الحكم أو في المعارضة، فلا يمكن لأي حزبٍ أن يكبر و يكون له أنصاراً ما لم يتحالف مع طرفٍ خارجي مهما كان ليكوّن له موقعٌ في السّاحة السّياسية من أصغر حزب الى الأكبر. الصراع السّياسي وحتى العسكري الذي يقع في شمال إفريقيا منذ يوم النكبة هو صراع أطرافٍ أجنبية لا دخل لنا فيها، ورغم ذلك نحن ندفع الثّمن ونشارك في هذا الصراع وهذه الحقيقة الّتي أصبح الجميع يعرفها في شمال إفريقيا، فقد أصبح الّلعب بالمكشوف والأحزاب لا تخفي تحالفها مع قطر أو الإمارات أو السعودية أو حتى إيران و تركيا وفرنسا وألمانيا وأوروبا.
ليس هناك موقع لأي وطنيٍّ حقيقي بل حتى أنّه يولد ويعيش و يموت ولا يسمع به أحد وهذا بالفعل شيءٌ مؤسف جداً. استحضرت ذاكرتني الآن محادثة أجريتها مع أحد السّياسين الأوربيين عن الوضع في شمال إفريقيا قال لي بالحرف: “عندما نريد أي شيءٍ من شمال إفريقيا نتصل بأسيادهم الذي يتحكمون فيهم ونحصل على كل شيء، لأن ليس هناك لوبي سياسي واحد وطني في شمال افريقيا بل أنّ كل اللوبيات الّتي في شمال إفريقيا هي لوبيات أجنبية”.
نعود لموضوعنا في تونس وهو تقريباً نفس الوضع في كل دول شمال إفريقيا، وكما نعلم أن كل الأحزاب الموجودة على السّاحة هي أحزابٌ تتلقى الدّعم الخارجي المالي و السياسي والإعلامي… وأن أغلب أعضاء البرلمان التّونسي كي لا أقول كلهم يخدمون مصالح أجنبية ولا يهمهم من قريب ولا من بعيد مصلحة المواطن التونسي، وهذا لا يحتاج إلى دليلٍ ولا برهان.
الآن بعد أكثر من 9 سنوات على الانتفاضة ونحن نشاهد النّقود تضخ بالمردودات على شكل ديون ومساعدات وهبات وهدايا… دون أن نتكلم عن النّقود الّتي تدخل بطريقةٍ غير قانونية… وكلها تذهب للمشرفين على الأحزاب ولشراء الذمم وقت الانتخابات وهذا لا ينطبق على البرلمان فقط بل حتى الرئاسة وكل هياكل الدّولة التي تعمل كلها لتفقير الشّعب التونسي ليبقى دائماً في حالةٍ من العوز والحاجة ألى هذه الأحزاب التي تعطيه بعض الفتات لينتخبها ولشراء الأصوات الإعلامية وغيرها.
ليس هناك حزبٌ واحدٌ يعمل على استقلال تونس ولا حزبٌ يعمل على بناء تونس ولا حزبٌ يفكر في المواطن إلا عند الانتخابات بالوعود الكاذبة و بالمال … وهذا الأمر أصبح جليّاً ومفهوماً من قبل الجميع.
دعونا الآن نتعرف على التّيارات الكبيرة الموجودة في تونس والّتي لم تتغير من قبل الاستقلال عن فرنسا، فقط أخذت أشكالاً جديدة ووجوهاً جديدة لا أكثر ولا أقل وهي 3 تيارات كبيرة:
أولا: اليسار، هذا التّيار الّذي شارك بشكلٍ فعال في خلق نقابة العمال، وما يطلق عليه الاتحاد العام التونسي للشغل، ومن الشخصيات المعروفة فرحات حشاد التي اغتالته القوات الفرنسية لما يشكل خطر على مصالحة في تونس في ذلك الوقت ومن بعد الاستقلال. هذه النقابة رغم كل محاولات تدجينها في عهد بورقيبة وبن علي ومن بعد الانتفاضة إلا أنها تبقى أكثر المنظمات قوة والتي تفكر في مصلحة الشعب التونسي وخاصة العمال. صحيح أنّها ليست حركة سياسية ولكن لها دور كبير في التأثير على السياسيين وتبقى مصدر قلق لكل من يريد أن يبيع تونس كلها لجهة أجنبية. أما اليسار كأحزاب سياسية وبعد أن دمرهم بورقيبة بإطلاق الإسلامين عليهم في الجامعات وغيرها إلا أنهم مازالوا يعتبرون الأكثر نشاطاً وتضحية رغم انقسامهم إلى عدة أقسام ولم يبقَ لهم وزنٌ حقيقي في تونس إلا من خلال بعض الجّمعيات الإنسانية أو باسم بعض الأشخاص. دخل الجانب الرسمي والتاريخي من اليسار في اللعبة السياسية كمتفرج وتحالف مع العروبيين وكثير منهم استسلم للوضع الموجود حتى لا ينتهي كليّاً، أما القاعدة فقد تشتت مع الأسف لأن القيادة العليا لم تعٔد تمثلهم ولأن الفكر اليساري الشيوعي اليوم لم يعُد فعالاً خاصة بعد سقوط الإتحاد السوفياتي… رغم أن اليسار يملك إيدلوجية قوية لمن يؤمن بها ورغم أن المنتمين لليسار أحدثوا ابداعاتٍ في مجال الفن والموسيقى والفكر في تونس، ورغم أن الكثير منهم تخلى على الفكر اليساري، إلّا أنه يمكننا القول أن الأشخاص الذين انتموا لليسار مهما أصبح حالهم اليوم هم أقرب للوطنية وأقرب للتفكير في مصلحة تونس، ولكن لا يمكن أن تعوّل على يساري عربي ولا يساري يميل للإسلامين فهؤلاء خطورتهم على الوطنية أكثر من الإسلامي والعربي نفسه.
ثانيا: البورقيبين أو الإسلامين الحداثيين مهما كانوا سواء القدماء أو في عهد بن علي أو من هم الآن من نداء تونس وأخيرا الذين تحمل رايتهم عبير موسى، هؤلاء انتهى عصرهم رغم كل المحاولات التي يبذلونها من أجل العودة، لأن عهد بورقيبة انتهى وفكرة أخذ العصا من النصف لم تعُد تنفع اليوم. رغم أن بورقيبة كان عدواً للسعودية والخليج إلّا أنّ هذه الأخيرة مدعومة من السعودية والإمارات وفرنسا… وهذا الأمر واضح وجليّ للذي يفهم السياسة الحالية، صحيح أن عبير موسى قامت بتجديد في الفكر البورقيبي حيث أعلنت عداوة صريحة للفكر الإسلامي لكنها لم تعلن ذلك عداوتها للفكر العروبي الذي هو عملة واحدة مع الفكر الإسلامي. كما أن عداوتها للإسلامين هي عداوةٌ سياسية ليست ايدلوجية لأنها تحمل من الأفكار الإسلامية التي لا تختلف بينها و بين الإسلامين كمثال؛ ما يخص الحريات ومسئلة المساواة في الإرث ومسئلة حق نقد الإسلام و مسألة المثلية… وغيرها من الحقوق المدنية للمواطن. إنّها تركز كل عدواتها على الجانب السياسي من الحركة الإسلامية لا أكثر ولا أقل رغم أن بورقيبة هو الذي سمح لهؤلاء لكي يصبحون قوة للقضاء على اليسار، وهي تتبع سياسة بن علي في العداوة مع الاسلامين لكنها لا تملك السلطة لتزجهم في السجون كما فعل بن علي و لو كان لها السلطة لفعلت ذلك. هذا الشق كما أراه لا يعمل على استقلال تونس الفعلي وإنّما مجرد عمالةٍ لجهة يمكن أن تكون أفضل من العمالة لجهةٍ أخرى تعتبر أسوء للشعب التونسي.
ثالثاً: الإسلامي العروبي، هذا الشق هو امتداد لشق صالح بن يوسف والشّق الزيتوني والشّق العروبي الصّلب وهو اليوم متمثلٌ في حركة النهضة وكل الأحزاب الإسلامية التي تتبعها رغم الاختلاف في النظرة، وهو نفس شق الرئاسي لقيس سعيد، وهم من يحكمون في تونس. هؤلاء جهاتٌ مدعومة من قطر وأخرى تركيا وأخرى من إيران… وقد استطاعوا خلال السنوات بعد الانتفاضة أن يسطروا على أجهزة الدّولة ويشتروا الذّمم ويحدثوا الانشقاق و التشتت في كل الأحزاب الأخرى بما فيهم نقابة العمال واليسار والتيار البورقيبي لأن لهم تجربة طويلة في المعارضة ولأنهم أكثر قرباً من التونسي المسلم العادي حيث يعرفون كيف يلعبون على المخزون الديني والخوف من الله، كما استطاع هؤلاء ان يسيطروا على الإعلام وان يشتروا الذّمم التي تُباع و تُشترى واستطاعوا أن يكسبوا تجربةً في الحكم فهو الآن القوة المسيطرة على تونس وقوتهم مازلت في أول الطريق بعد أن يزحوا ما تبقى من الجيوب التي تعارضهم ويمكنون أنفسهم. هؤلاء الخطر الأكبر الذي يترقب تونس هو أخطر ممّا نتوقع، فلو استمروا في التحكم بمصير تونس فهم أكبر العملاء وأعظم خطر على الشعب التونسي، ولأن الشعب التونسي المسلم المستسلم العربي جاهل بكل هذا وهم يعملون على أن يبقى في جهله لكي يمكنهم التحكم فيه كما يريدون.
هذه إذاً الأطراف الثلاثة التي تتحكم في مصير تونس، فما هو موقف اللّادينين من هؤلاء؟ كيف هم مشتتين بين اليسار والبورقبيين! وما هو الحل! هل ندعم طرف على حساب آخر لأن عدونا كلنا هم الاسلاميون؟؟؟ هل دعم عبير موسى يكون الخيار الصائب؟؟ هل دعم اليسار الذي باع الغالي والرخيص سوف يخرجه من هذا الركود والاستسلام؟؟ هل نكتفي بالانتماء إلى جهة أقل خطراً من الجهة الأخرى؟؟ ما هي الخيارات التي أمامنا؟ أم هل نعمل على أنفسنا ونصبح تياراً وإن كان صغيراً يمكن أن يكون له مستقبلٌ لو تم حسن الاختيار والسير؟؟؟ عدة أسئلة نحاول أن نجيب عليها في الحلقة القادمة.
بعد أن تعرفنا على الأطراف الثّلاثة الكبيرة التي تلعب في الساحة السياسيّة في تونس وهم؛ الإسلاميون وحلفائهم، المسلمون الحداثيين وحلفائهم، واليسار الأيتام وتشتتهم. نحاول الآن أن نتعرف على أنواع اللّادينين الموجدين على الساحة التونسية، عندما أقول لادينيين أقصد بهم الملحدين، الربوبيين، ولا أدريين وكل من هو مسلم بالاسم ولا يعني الإسلام له شيء سوى مجرد هويّة، وهؤلاء موجودون بعدد كبير في تونس؛ حيث أن الدين بالنسبة لهم مسألة ثانوية تتبع العادات والتّقاليد لا أكثر ولا أقل، ويعتبورنه أمراً سطحياً وفردياً. هؤلاء الأشخاص البعيدون عن الدين الأرثذوكسي الرسمي يمكن اعتبارهم ضمن اللادينين ونجد من هؤلاء المسلمين الصوفيين وغيرهم من المذاهب البعيدة عن الإسلام العروبي الرسمي.
كما نجد من الأديان الأخرى مثل البهائيين، المسيحيين، اليهود، والروحانيين وغيرهم حيث لا وزن للدين في حياتهم ويرونه مسألةً فردية شخصية لا دخل لها لا في القوانين ولا في السياسية ولا في الاقتصاد. كل هؤلاء يعتبرون ضمن الجبهة المدنية للدولة التونسية ومع التغيير الجذري لتونس لكي تلحق بركاب الحضارة والدول المتقدمة.
وسأتكلم وأركز في هذا المقال عن اللّادينين وبصفة خاصة أقصد الملحدين الذين يمثلون رأس الحربة وهم الأكثر عدداً والأكثر نشاطاً على الساحة التونسية، وأكثر الأقليات في تونس، وعددهم يتزايد يوماً بعد يوم، وصوتهم بات مسموعاً أكثر، وهم الذين يدافعون عن كل الأقليات الأخرى، حيث أنّهم يملكون الجرأة والشجاعة في معادة الأديان الأرثذوكسية الرسمية التي تمنع الحرية وتقيد الإنسان بقواعد مقدسة، وترهب الفرد والمجتمع نفسياً وجسدياً، وحتى تهددهم بما وراء الموت وتقلص العقول عن التفكير والبحث والمعرفة. هؤلاء الملحدون هم موضوع حديثنا هنا وينقسمون إلى 3 أنوع.
الملحدون الإنسانيون أو الإلحاد الفكري؛ وهو نوع من الإلحاد يعتمد على العقل والفكر والمعرفة والأخلاق الإنسانية، حيث يعتبر الإنسان هو الذي خلق الدين وفكرة الرب وليس العكس، ويعتبر الانسان هو المسؤول الوحيد عن مصيره ولا قوة خارجية مهما كانت، هذا النوع من الالحاد ليس له عداوة مع الدين بصفة عامة ولا عداوة مع الرب بصفة خاصة، إنما عداوته مع الأفكار الغير أخلاقية والغير إنسانية الموجودة سواء في الأديان أو غير الأديان. هذا النوع من الإلحاد يعتمد على المنطق والعلم والطبيعة البشرية وتطور الوعي لدى الانسان وتطور المعارف والفلسفة و العلوم الاجتماعية من أجل حياة أفضل للفرد.
هذا الإلحاد يؤمن بالفردية كمبدأ أساسي حيث يرى سعادة المجتمع في سعادة الفرد، و هو ضد فكرة القطيع والأمة والتبعية، فكل إنسانٍ مسؤول عن نفسه، والذي يجمعنا هو الإنسانية، ويجب على القوانين التي تظم العلاقات بين الافراد ألّا تتدخل في حياة الفرد الشخصية، لا يحق للقانون أن يتدخل في الفرد في ما يخص نفسه فهو الوحيد المسؤول عنها في ما يخص ذاته، أما في علاقاته مع الأخرين سوى البشر أو الحيوان أو الطبيعة وكل ما حوله هنا توضع القوانين. هكذا يمكن إعطاء للفرد مساحة للحريّة الشخصية في كل المجالات الفردية الشخصية.
الإلحاد الفكري؛ هو مستوى إنساني راقي و مسؤول، وعادة لا يمكن جمع هؤلاء الملحدين لا في حزب سياسي ولا في جمعية مهما كانت، لأنهم يرفضون الإنتماء ويريدون أن يبقوا أحراراً في أفكارهم وتصرفاتهم. يمكن أن يجتمعوا للنقاش أو الحوار أو يجتمعون تحت إطار معين، ولكن بدون التزام و تبعية، ويكون لكل شخص كامل الحرية في تصرفاته، و يجب أن يقتنع عقلياً ومنطقياً في أي مسألة مهما كانت. يمكن لهؤلاء أن يجمعوا تحت جمعية إنسانية أو جمعية فكرية حيث يكون الفكر متنوع الراقي، ويكون هناك حرية في التنوع خاصّة فيما يخص الفكر الفردي أي عبارة عن جمعيات تحمل منبراً حراً للتّفكير وإبداء الرأي، أو منصّة للتّعبير على الفكر مهما كان.
هناك الكثير من الجمعيات التي تتوجه بهذا الاسلوب في الغرب وفي العالم وتُبنى على أساس أنها منابرٌ حرة يكون الإلحاد الفكري فيها قوي ومشارك، لكن هذا النوع مفقودٌ في العالم الإسلامي، فأول الجمعيات من خلفية إسلامية هي جمعية AIME التي تم تأسيسها في فرنسا سنة 1998 واخذت الرّخصة الرّسمية سنة 2000 وهي أول جمعية في العالم الإسلامي وتحت القانون التونسي أخذت الرخصة بعد 11 سبتمبر سنة 2001 وتحمل نفس الإسم وكانت لها مجلة ورقية باللغة الفرنسية.
عن طريق هذه الجمعية الذي كُنت الكاتب العام فيها، والتي عملت على السّاحة التّونسية أكثر وفي أوروبا عملت على الجالية التي من أصل مسلم مدة 6 سنوات، قبل أن يتم حجزها سنة 2005 من طرف حكومة بن علي وتوقيف نشر مجلتها الشهرية التي كانت تباع في تونس وشمال افريقيا واوربا… استطعت أن أتعرف من قربٍ على هذا النوع من الملحدين المثقّفين الأخلاقيين الإنسانين بأتمّ معنى الكلمة.
هؤلاء موجودون بكثرة في تونس و لكنهم مشتتون جداً سياسياً بين الأحزاب البورقيبة، والأحزاب اليسارية الملتزمة، ومن هو معتزلٌ عن السياسة كليا، ومن يعمل في الجمعيات الفنية والإنسانية… الجمعية الوحيدة اليوم التي يمكن أن تجمعهم من جديد هي جمعية “إنارة”التي تأسست منذ مدّة قصيرة تحت إشراف نضال غرسي، رغم أن هذه الجّمعية في بدايتها إلّا أنها تحمل الاخلاق والمبادئ الإنسانية الحقيقة للملحد الحر الحقيقي بعيداً عن سياسة القطيع و التبعية والتلاعب والخلط بين التلاعب السياسي ورفع شعارات كاذبة لخدمة مصالح شخصيّة أو سياسيّة.
جمعية “إنارة” هي الجمعية الوحيدة اليوم في تونس التي تحمل مبدأ الملحد المثقف الملحد الحر، الملحد المفكر، الملحد المبدع الذي لا يتبع سياسة القطيع، والتي يمكن أن تفجر الطاقات لتوحيد الملحدين تحت منبرٍ حر حقيقي بدون عداوة ولا كره وتنشر مبادئ التسامح والتعايش بين جميع الأحرار في تونس الّذين يؤمنون بالمبدأ الإنساني ويعتبرون الانسان هو المقدس الوحيد بلا أفكارٍ ولا إطار ولا إيديولوجيات.
أرى في هذه الجمعية مستقبلاً نيراً يوَعي الشعب التونسي للمبادئ المدنية وفكرة المواطنة والفكر الإنساني الحر الحقيقي دون متاجرة ودون استغلال، ويمكن أن يكون لهذه الجمعيّة دورٌ في تقديم النّصح لللادينيين والملحدين والاقليات المسالمة في أي عملٍ سياسي مستقبلي يخص تونس من أجل تطوير الدّستور التونسي وتحرير العقول من الجهل والأفكار التي تأخرنا إلى خلف وتعيق التحاقنا بركاب الحضارة.
دعم هذه الجمعية والتوحد حولها كجمعية حقوقية إنسانية هو واجب لكل إنسانٍ حر في تونس حتى لو كان دعماً بدون المشاركة الفعلية، لأنني أعرف أن الكثير من الملحدين الإنسانيين لا يريدون الانتماء، ولكن يمكنهم أن يدعموا هذه الجمعية بطريقتهم الخاصة وعلى حسب وجهة نظرهم، ليس لنا اطار اخر مع الاسف، لعل في المستقبل تظهر جمعيات اخرى، معادة هذه الجمعية من طرف التقليدين والإسلاميين والمتشبعين بالفكر المتخلف أمرٌ عادي وهو أمرٌ طبيعي، ولكن أي شخص يدعي الحرية ويدعي الإنسانية يعمل على التشكيك في هذه الجمعية دون ان يقدم بديل افضل تأكد أن الذي دفعه إلى ذلك هو النيّته الغير شريفة ومصالح شخصية وأخرى سياسية لا تخدم مصلحة الأحرار في تونس ويجب الحذر منه. الطريق مزال طويل، الطبقة الالحادية المثقفة ليس من السهل ان تتجمع ليس في تونس فقط وانما في العالم اجمع، لان هولاء الطبقة جدا مستقلة وتؤمن بالفرد اكثر من المجموعة والعمل الجماعي.
هذه فرصةٌ مهمة لنوحد اللادينين الإنسانيين الذين يؤمنون بالعمل الجمعياتي، لأن أي عملٍ دون إطار لا قيمة له، ولا يمكن أن نتقدم دون إطار ودون إلتفاف وحول رمز يجمعنا. الجمعية مجرّد كيان معنوي لا قيمة له، القيمة لمن يكن تحت سقف هذا الإطار لكي نتقدم بالعمل ويكون لنا صوتٌ مسموع ورأي مؤثر في الساحة السياسية والساحة الاجتماعية في المستقبل. يجب العمل على تقوية هذه الجمعية وجعل صوتها يصل إلى الجميع في تونس وخارج تونس لكي يكون لها كلمةٌ وتأثير.
0 تعليق