Contents
الصيف في البلاد: سنة 1982
لقد أنهيت للتو قراءة 300 صفحة مترجمة من كتابي بالفرنسية “تونس… رحلة وطن… وحياة.” الترجمة لم تقتصر على نقل الكلمات فحسب، بل استطاعت أن تجسد جوهر تجربتي وكأنها تعيد إحياء الأحداث من جديد.
أشارككم مقطعًا صغيرًا من الكتاب، حيث دار حديث بين صالح كركر وأختي سميرة خلال زيارتي لسجن “الناظور” في بنزرت سنة 1982.
رحلة العودة إلى تونس
كان إخوتي يستعدون للسفر إلى باريس، فهم أيضًا أرادوا التعرف على الحياة في الغرب وخوض هذه المغامرة الفريدة التي ستفتح عقولهم على آفاق جديدة ومختلفة.
أما والدي، فقد وجد نفسه وحيدًا، بعدما غادره معظم أبنائه. لم يبقَ بجانبه سوى أخي الصغير وأختي سميرة، التي كانت لا تزال تحيطه بتزمتها الديني، مما زاد من تعقيده تحت وطأة الإسلام.
لتجنب المزيد من التعقيدات، احتفظت بآرائي حول الغرب والغربيين لنفسي، ولم أصرح بها أمام سميرة، تلك التي كانت ستجد في كلامي فرصة جديدة لاعتباري ساذجًا واتهامي بالضعف والخضوع للعدوّ. لكن لم تعد أقوالها تخيفني، ولم تعد تخيف حتى بقية العائلة. حتى والدي نفسه لم يعد يمنحها ذلك الاحترام المطلق الذي كان يمنحها إياه في الماضي.
بل إنه كان يعاملها أحيانًا كما تُعامل الجواري والعبيد، ولم تكن تستطيع الردّ. لقد أصبحت ببساطة تعيش تحت سقفه، وتعتمد على طعامه، وتقبل ذلك وفق ما أقنعت نفسها به من مبادئ الإسلام: “على المرأة أن تخضع للرجل، سواء كان زوجًا أو أبًا…”
زيارة سجن الناظور
بعد أيام، أخذتني سميرة إلى ولاية بنزرت، حيث يقع سجن “الناظور”، حيث كان زوجها محتجزًا مع زملائه الإسلاميين. كان المكان يعجّ بالحراس المدججين بالسلاح.
على سطح مدخل السجن، كان هناك رشاش ضخم، جاهز لإطلاق النار عند أدنى حركة مشبوهة. هذه الإجراءات الأمنية الصارمة كانت تشير إلى مدى اعتبار السلطات للإسلاميين المتشددين كأحد أكبر المخاطر في البلاد.
اجتزنا العديد من البوابات الأمنية ونقاط التفتيش قبل أن نصل إلى مكان الزيارة. تبادلت سميرة وزوجها سلامًا باردًا. لا مكان للحب والحنان في حياة الثوري الذي كرّس نفسه لقضيته.
عندما رآني، قال لي:
“آه… كريم… أخيرًا!”
لم يبدو عليه أنه تعرض لمعاملة قاسية في السجن، لكن ملامحه حملت بعض علامات التعب. كان إيمانه العميق بالثورة كفيلًا بالحفاظ على روحه المعنوية. نظرته كانت تعكس صلابة وإصرارًا على المضي قدمًا في المعركة.
ثم سألني:
“هل صمدت أمام شياطين أوروبا؟”
كنت قد تعلمت فنّ المراوغة في مثل هذه المواجهات، فأجبته بما أراد سماعه:
“تركتهم يقتربون مني، راقبتهم عن كثب، لكنهم لم يدركوا أبدًا أنني كنت أفهم لعبتهم السخيفة.”
أجابني بارتياح:
“جيد… أنا سعيد جدًّا. اسمعني جيدًا… الحكومة التونسية أصبحت آلة استبداد رهيبة. لقد حبستني السلطة رغم أنني رجل نقي وصريح. لقد ألقوا بي في السجن ككلب أجرب فقط لأنني أدافع عن حرية المؤمنين… هل أصبح من الجريمة أن نختار العيش وفق مرضاة الله؟”
انقسام الإسلاميين داخل السجن
انتهى حديثي معه، لكنه انسحب جانبًا مع سميرة، وراحا يتحدثان بصوت خافت. رغم محاولتهما التحدث بسرية، التقطت أذناي بعضًا مما قالاه. كان يزوّدها بتوجيهات وتعليمات، كما أعطاها قائمة بأسماء أشخاص عليها التواصل معهم.
ظل صالح كركر على اتصال بحركة الاتجاه الإسلامي عبر سميرة شخصيًا، إذ كانت الوسيلة الوحيدة التي تمكنه من توجيه الحركة والاستمرار في القيادة. ومن خلال الحديث الذي سمعته، بدا أنه على خلاف شديد مع راشد الغنوشي، حيث اتهمه بالخيانة على أعلى مستوى، معتبرًا أنه أضرّ بمبادئ الحركة وعرقل مشروع الدولة الإسلامية.
قال لسميرة إن على الجماعة الحذر من الغنوشي ومن المقربين منه، مشيرًا إلى أن هذا الأخير كان يتفاوض مع الدولة لإطلاق سراح بعض المساجين الإسلاميين. كان صالح غاضبًا بشدة، ورافضًا تمامًا لأي تفاوض، حتى لو كلفه ذلك حياته.
انقسم الإسلاميون داخل السجن بين داعم للغنوشي ومؤيد لكركر، بين من يريد التفاوض مع الدولة، ومن يرفض أي نقاش. بلغ هذا الانقسام ذروته، وأدى لاحقًا إلى شرخ كبير داخل الحركة، أثر على استراتيجياتها، سياساتها، وحتى أفعالها.
سميرة كنعجة مسلوبة الإرادة
عدنا إلى المنزل بعد انتهاء الزيارة، لكن كان واضحًا أن سميرة لا تزال تتبع خطى كركر دون تفكير، كنعجة بلا إرادة. كانت حياتها اليومية تدور حول تلبية احتياجاته، فقد رأيتها قبل يومين من موعد الزيارة وهي تعدّ له أصنافًا مختلفة من الطعام: دجاج، لحم، أنواع مختلفة من الفاكهة… كانت وليمة حقيقية.
في المقابل، كانت سميرة وطفلاها يقتاتون على حساء هزيل، بالكاد يسد رمقهم. كانت العائلات تتناوب على تغطية نفقات الزيارة للسجناء السياسيين، حيث تقوم سبع عائلات أسبوعيًا بإعداد الطعام لهم، ليحظوا داخل السجن بحياة أكثر راحة من كثير من المواطنين خارجه.
الهوية التونسية… من أنا؟
على الرغم من قصر زيارتي إلى تونس، فقد أعادت إليّ شعور الانتماء إلى هذا الوطن. أدركت أنني تونسي حتى النخاع، وسأظل كذلك مهما فعلت ومهما حاولت الاندماج في المجتمع الفرنسي.
لكن في الوقت نفسه، طرحت عليّ هذه العودة سؤال الهوية المؤرق: من أنا؟ وما الذي أكونه؟
يمكنك القراءة أيضًا : يا ليتني لم أقل لا