الدهر أو الزمان والبداء في الغنوصية

مقدمة

اللغة والدين اللذان نشأنا عليهما يحملان في جوهرهما بذور الغنوصية الأصلية، وهذا يعني أننا لسنا بحاجة إلى تغيير ديننا أو لغتنا للوصول إلى المعرفة الغنوصية. بل إن أقصر الطرق وأسرعها نحو التحرر الغنوصي هو استخدام لغتنا الأم والتأمل في الدين الذي وُلدنا فيه، لأن كل دين، مهما كان، ليس إلا قشرة تغطي جوهرًا واحدًا، وهو المعرفة الغنوصية، وكل لغة ليست سوى غلاف للحس والشعور الإنساني.

الغنوصية ليست انتقالًا من دين إلى دين آخر، ولا من لغة إلى لغة أخرى، بل هي رحلة نحو الجوهر، بعيدًا عن القشور اللغوية أو الدينية أو العقائدية. من يبدل دينه أو لغته بحثًا عن الغنوصية يضيّع وقته دون فائدة، لأن الوصول إلى المعرفة يبدأ من الداخل وليس من الخارج.

التجربة الشخصية في البحث عن الغنوصية

لقد نشأت في بيئة سنية، ثم اتجهت نحو التشيع ظنًا أنه يمثل الحقيقة، لكنني بعد سنوات من البحث أدركت أنني كنت أضيع الوقت في التعمق في القشور، فعُدت إلى التصوف السني، ومنه وجدت المعرفة بسهولة. ورغم أنني لم أخرج من الإسلام أثناء بحثي عن الحقيقة، إلا أنني أدركت في النهاية أنني كنت أستنزف وقتي في الدوائر العقائدية، حتى وصلت إلى التحرر الكامل من جميع الأديان.

هذه التجربة تجعلني أتساءل: ماذا عن أولئك الذين يهدرون حياتهم بالكامل في ملاحقة أوهام دينية أخرى؟ إذا كان الهدف هو اكتشاف المعرفة الغنوصية، فإن الطريق الأسرع والأكثر فعالية هو البدء من الدين واللغة الأصلية للباحث.


الزمان والبدء: وعي الإنسان الأول

منشغلًا بالصراع من أجل البقاء، لم يكن الإنسان الأول واعيًا بالزمن، فقد كان مثل باقي الحيوانات، يسعى للصيد والبقاء دون إدراكٍ للوقت. الأنثى، التي كانت تنتظر عودة الذكر من الصيد، هي أول من وعى بالزمن، إذ وجدت نفسها مضطرة إلى تهدئة صغارها وإدراك مرور الساعات والأيام.

وهكذا، كان الوعي بالزمن نقطة التحول الأولى التي أخرجت الإنسان من حالة الحيوانية نحو الإنسانية. فمن وعى بالزمن، أدرك أن لكل شيء بداية ونهاية، وبهذا ظهر مفهوم “البدء” في الفكر البشري.

الزمن بين الدوران واللانهائية

الكثير من البشر، رغم أنهم واعون ظاهريًا، يعيشون دون إدراك حقيقي للزمن. بالنسبة لهم، الزمن مجرد عقارب ساعة تتحرك في دائرة مغلقة، لكنه في الحقيقة ليس دورانًا دائريًا بسيطًا، بل حركة لولبية متطورة.

  • هناك فرق بين دوران الساعة اليوم ودورانها غدًا.
  • هناك فرق بين شروق الشمس اليوم وشروقها غدًا.

رغم أن الأحداث تتكرر في الظاهر، فإن الزمن يُحدث فرقًا دقيقًا بين كل لحظة وأخرى. وهذا ما وعت به الأنثى الأولى، ثم نقلته إلى الذكر، فبدأ الوعي الإنساني بتسجيل بدايات ونهايات الأشياء، مما أدى إلى نشوء مفهوم البداية والنهاية.


التطور الإنساني: من الجماد إلى الإنسان

حين بدأ الإنسان يفهم الزمن، بدأ يتساءل عن بداية الأشياء ونهايتها، وهذا البحث المستمر كان بداية الخروج من عالم الحيوان إلى عالم الإنسانية.

وفقًا للفكر الغنوصي، التطور لم يكن مجرد تطور جسدي، بل كان أيضًا تطورًا في الوعي:

  • الجماد كان المرحلة الأولى.
  • النبات تطور من الجماد.
  • الحيوان خرج من عالم النبات.
  • الإنسان تطور عن الحيوان بجسده، لكنه كيان مستقل بوعيه.

وهنا يأتي السؤال الفلسفي الذي طُرح بين الأديان والإلحاد المادي: هل أصل الإنسان حيوان أم كيان مستقل؟

  • الإلحاد المادي يرى أن الإنسان مجرد امتداد للحيوان.
  • الأديان تعتقد أن الإنسان مخلوق بيد إلهيّة.
  • الغنوصية تقول إن جسد الإنسان تطور عن الحيوان، لكن وعيه منفصل تمامًا عنه، مما يجعل الإنسان كيانًا قائمًا بذاته، لا مخلوقًا بيد إله ولا مجرد امتداد بيولوجي للحيوان.

فكرة الخلق والظهور في الغنوصية

في الفكر الغنوصي، الخلق ليس عملية فجائية بيد كيان خارق، بل هو عملية ظهور تدريجية. حتى الأديان التي تتحدث عن الخلق تشير ضمنيًا إلى أن كل شيء خُلق من شيء سابق، أي أن كل “بداية” هي في الحقيقة نهاية لشيء آخر.

عندما بدأ الإنسان يدرك الزمن، بدأ يواجه أسئلة وجودية مرعبة:

  • كيف أعيش وأنا أعلم أنني سأموت؟
  • كيف أبني وأترك إرثًا وأنا أعلم أنني سأرحل؟

هذه الأسئلة لا تزال ترعبنا اليوم، رغم تطورنا الفكري، فكيف كان وقعها على الإنسان الأول؟ كيف شعرت الأم الأولى حين أدركت أنها ستموت وتترك أبناءها؟

من هنا، ولدت الغنوصية—حيث بدأ الإنسان في البحث عن الحقيقة المطلقة التي تتجاوز محدودية الزمن والموت.


الزمن والإله في الفكر الغنوصي

في الديانات القديمة، مثل الديانة الزرادشتية وما قبلها، كان هناك اعتقاد بأن الزمن هو الإله، وكان يُطلق عليه “زوران” أو “زورقان”.

  • زوران هو الزمن المطلق، الإله الذي خلق الخير والشر معًا.

  • كان يُنظر إلى الزمن كإله محايد، لا ذكر ولا أنثى، لا خير ولا شر، مجرد قوة تحرك الوجود.

  • هذا المفهوم كان منتشرًا في الجزيرة العربية قبل الإسلام، وكان أتباعه يُعرفون بـ”الدهريين”، وقد أشار إليهم القرآن في قوله:

    “وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون”(الجاثية: 24)

ورغم رفض القرآن لفكرة أن الزمن هو الإله، نجد في الحديث القدسي ما يؤكد هذا الاعتقاد:

“لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر”


خلاصة الفكرة الغنوصية عن الزمن

الغنوصية لا تؤمن بأن الدهر أو الزمن هو اللوغوس، بل ترى أن الزمن هو حركة اللوغوس، وليس اللوغوس ذاته. تمامًا كما أن حركة الإنسان ليست هي الإنسان نفسه، فالزمن ليس كيانًا مستقلًا، بل هو تعبير عن الحركة داخل الوجود.

ما يمكن استخلاصه من هذا الفهم هو أن الوعي بالزمن هو ما يميز الإنسان عن الحيوان، وأن إدراكنا المستمر للزمن يقودنا إلى طرح الأسئلة الوجودية الكبرى حول البداية والنهاية، وحول جوهر وجودنا بين هاتين النقطتين.


دعوة للتأمل والبحث

إن إدراك الزمن اليوم يبدو لنا أمرًا بديهيًا، لكنه لم يكن كذلك للإنسان الأول. علينا أن نسترجع تجربة التأمل هذه بأنفسنا، ونعود إلى أصل وعينا، بعيدًا عن ضجيج الحياة الحديثة.

العودة إلى إنسانيتنا الأولى لا تعني التخلف، بل تعني استعادة فضولنا الفطري نحو التطور والتقدم، بعيدًا عن الجمود الفكري والخضوع للموروث التقليدي.

في النهاية، الغنوصية ليست مجرد فلسفة، بل هي رحلة شخصية نحو وعي أعمق، نحو إدراك ذاتي مستقل عن الأيديولوجيات والعقائد الجاهزة.

يمكنك القراءة أيضًاحقوق الإنسان بين الحضور والنسيان

Pin It on Pinterest