الروح – اللوغوس في المعتقدات
بعد الحديث عن الأعمدة الثلاثة الأولى أو النظريات الثلاثة لفهم اللوغوس في الغنوصية وهي: أولاً “المطحنة” التي تمثّل لا شيء مفهوم؛ الفوضى لا أكثر ولا أقل. الثّاني “المادّة الأوليّة”، والثّالث “العقل الكلي”. وصلنا في هذه الفيديو للحديث عن العامود الرّابع أو النّظرية الرابعة لفهم اللوغوس وهي “الروح”.
هذه النظرية ظهرت قبل عشرات الآلاف من السنين في الإنسان العاقل الذي سيطر كل الكرة الأرضية وأصبح هو الإنسان الوحيد كنوعٍ بشري. هنا يجب أن نوضّح نقطة مهمّة جدّاً لكي لا ينقطع لدينا التّسلسل في الأفكار؛ حيث تكلمنا على ثلاثة عصور سابقة. كل عصر من هذه العصور عرف ظهور عامود من الأعمدة لفهم اللوغوس وانتقلت فيهم الإنسانيّة من مرحلة إلى مرحلة جديدة.
نلخص هذه العصور الثلاثة لكي لا تنقطع لدينا حبال الأفكار:
العصر الأول كان قبل عشرات الملايين من السنين، في آخره ظهرت فكرة العامود الأوّل التي أخرجت الإنسانية من عالم الحيوان إلى عالم الإنسان. الغنوصية تذكر عن ظهور أنواع كثيرة من الإنسان قديماً أشبه للحيوان، وهناك روايات كثيرة وقصص تتكلّم عن ذلك حتى في الإسلام وفي القرآن مثل حديث علي:” قبل آدم هناك ألف آدم”،و لكن ليس هنا موضوعنا وسوف نعود إلى ذلك. والعلم اليوم أثبت أن قبل أكثر من 8ملايين سنة كانت هناك أنواع كثيرة من الإنسان البدائي على الأرض يطلق عليهم أشباه الإنسان، وهو أوّل من مشى على قدمين، وهو عصر الفوضى والصّراع الذي أدّى إلى ظهور العصر الثاني.
العصر الثاني ظهر قبل ملايين السّنين وفي آخره ظهرت النظريّة الثانية للوغوس وهو العامود المادي؛ خلال هذه الفترة تطوّر الجّسم الإنساني، وهذه المرحلة التي تتكلم عنها المعتقدات والأديان عن الإنسان في الجّنة. أما العلم يتكلّم عن الإنسان الماهر المستعمل ليديه. انتهت هذه المرحلة بترك الإنسان من جنة أفريقيا التي كان فيها الماء والأكل متوفّر ووقعت هجرة نحو القارات الأخرى وهي هجرة الإنسان الماهر نحو بقيّة أقطار العالم. انتهت هذه المرحلة وتركت مكانها للعصر الثالث.
العصر الثالث ظهر قبل مئات الآلاف من السنين؛ حيث ظهر الإنسان العاقل على حسب العلم وعلى حسب المعتقدات والأديان ظهور الإنسان المخيّر على الأرض، وفي هذه المرحلة ظهرت النّظرية الثالثة التي تعتبر اللوغوس هو العقل، ونحن مازلنا موجودين في العصر الثالث.
على حسب الغنوصية بعد العصر الثّالث سوف نصل إلى العصر الرّابع وهو “العصر الروحاني” ثم نصل إلى العصر الخامس الذي هو “عصر الوعي الكلي”.
إذاً أمامنا في المستقبل على حسب الغنوصيّة عصرين آخرين والذي يهمّنا هنا هو العصر الثالث الذي هو “عصر العقل”؛ في هذا العصر هناك ثلاثة حضارات: الحضارة الأولى والتي تكلمنا عليها باختصار في الفيديو السّابق هي الحضارة الكلاميّة والتي دامت مئات الآلاف من السّنين؛ حيث طوّر الإنسان الكلام والتّخاطب والتعامل مع بعضه، والتي ظهرت فيها النّظريّة الثّالثة للوغوس وهي “العقل”، و تطلق عليها الغنوصيّة اسم “عقل العقل” أي عصر العقل وحضارة العقل.
أمّا الحضارة الثّانية هي التي نطلق عليها الحضارة الكتابية وظهرت منذ عشرات الالاف من السنين ويطلق عليها في الغنوصيّة الحضارة الروحية، وظهرت فيها فكرة إن اللوغوس هو “الروح
” كما يطلق عليها في الغنوصية “روح العقل” لأنها في العصر العقلي وفي الحضارة الرّوحيّة، وهذه الحضارة قد انتهت ونحن موجودين الآن في الحضارة التي بعدها التي يطلق عليها “نفس العقل” وسوف نتكلّم عنها في الفيديو القادم.
أما في هذه الفيديو التي تهمنا هي الحضارة الروحية الموجودة في العصر العقلي .إذاً الحضارة الروحية التي ظهرت قبل عشرات الآلاف من السنين .ظهرت فيها فكرة اللوغوس على أساس أنّه “الروح” .في هذه المرحلة بدأت تظهر الدّيانات البدائية وبدأت تظهر الكتابة ولكن الكتابة كانت مقدّسة وسريّة ؛عند أشخاصٍ معينين فقط ولا تصل إلى العامّة أبداً ولا يعلمون حتى بوجودها ،و كانت الكتابة رمزية على شكل صخور ورسوم على مساحات شاسعة أو علامات معيّنة ليس الكتابة التي نعرفها اليوم ،حيث الفكرة كاملة أو الجّملة كاملة ترمز إلى علامة واحدة …في الأوّل لم نكن نطلق عليها كتابة بل كانت عبارة على رموز مقدّسة هذه الكتابة المنسيّة لم يصلنا منها الكثير ولكن نحاول فك رموزها دون الوصول إلى ما كانت ترمز إليها، وبسبب صعوبة فهمها على حسب عقليتنا الحالية لم نعتبرها كتابة ،و إنما نطلق عليها قبل الكتابة ،لأن بالنّسبة لنا الكتابة هي التي تتكوّن من حروف بينما هذه الكلمات تتكوّن من أفكار كثيرة في رمزٍ بسيط أو علامة بسيطة. إذاً يمكن أن نقول ظهور الكتابة البدائية. أما الكتابة التي الحرفية التي نعرفها سوف نتكلّم عنها في الفيديو القادم والتي تعتبر بداية التاريخ.
إن كان الحديث عن العقل الكلي أمر صعب و يحتاج تمثيلاً بالأرقام والحساب فإن الحديث عن الروح أصعب وأصعب ،ولو لم نفهم الفوضى الأولى التي تركت مكانها للنظام الذي نحن فيه نوعاً ما ،ولو إن المادة الأولى لم نستوعبها جيداً وهي التي أظهرت المادة التي نعرفها ،ولأن العقل الكلي صعبٌ فهمه ،ولكن ترك العقل الذي نعرفه لكي نفهم قليلاً فإن مع الأسف الروح الأولى مجهولة ،والروح التي انبثقت منها مجهولة بدورها مما يجعل الكثير ينكر وجودها أصلاً واعتبرها من الخرافات ،فالإنسان في هذا الوجود يرى الفوضى والفراغ او حتى المكان الذي تتحرك فيه الاشياء ويرى الجسم المادي ويشعر بعقله والأفكار ولكن ولا واحد يحس أن هناك الروح ،فالبعض اعتبر الروح هي النّفس أو بعض النّفس والبعض الآخر اعتبر الروح هي العقل أو مرحلة من مراحل العقل ،و البعض الآخر اعتبر الروح هي الطاقة والبعض أنكر وجودها أصلاً .حتى الإسلام لم يستطع أن يجيب رسوله في القرآن عن الروح وقال له:” أن الروح من أمر ربي”، ولو ذهبنا للديانات القديمة والمعتقدات لم يوضحوا الروح وشببهوها بالجسم الأثيري ؛على شكل جسم شفاف والفلاسفة الذين تفلسفوا في كل شيء يبقون صامتين أمام الروح ولا يستطيعون التفلسف فيها. إمّا ينكرونها أصلاً، أو يمزجونها بشيء آخر، أو يصمتون، وكل هذا يجعل الحديث عن الروح أمرٌ ليش فقط ولكن شبه مستحيل ومستعصي كثيراً، يجعل الكثير يبتعد عن الحديث عنها بل فقط التّسليم بوجودها.
في اليهودية نجد الروح تشبه النّفس، ولكن نفس ربانية، وفي المسيحية نتكلم عن الروح القدس والاسلام يجمع بين الكل. وفي الديانات الابراهيمية أو غير الابراهيمية عندما نتكلّم عن آدم الأول نقول إن الإله أو الرّب أوجده من تراب موجود ثمّ نفخ فيه من روحه، فبهذه النفخة أصبح موجوداً عقلاً ونفساً؛ أي عبارة على أن هذه الروح يحتوي على العقل والنّفس. الأمر ذهب أبعد من ذلك حول طرح الإنسان سؤالات هل الجّماد له روح؟ وهل الروح مرتبطة بالحياه فقط؟ لو هي التي تعطي الحياة أيضاً النبات يكون له روح وهل الحيوان له روح؟ حتى أن الكنيسة ذهبت أبعد من ذلك وناقشت هل المرأة لها روح أصلاً؟ فالرب نفخ من روحه في آدم فقط وليس في حوّاء، ولهذا اعتبر بعض رجال الكنيسة إن الروح موجودة إلا في الذكر، أما الإناث فليس لهم أرواح. كما أن هناك معتقدات تعتبر الملائكة هي أرواح صرفه والروح القدس هو رئيس الأرواح التي هي الملائكة. بل ذهب البعض إن الرب هو روح الوجود. وهل الجن والشياطين لها أرواح؟ أم لا؟ وهناك أديان ومعتقدات يتساءلون هل الروح مخلوقة أم هي الله أو الرب نفسه. نتكلّم عن خلق الجّسد ونتكلّم عن خلق العقل، ونتكلم عن خلق النّفس “ونفس وما سواها” ولكن لا نتكلم عن خلق الروح. فما هذه الروح؟ لا يوجد ولا معتقد يتكلّم إن هناك رب أو إله خلق الروح، فهذه الروح ليس لها طعم ولا لون وليس لها أي ظهور حسي أو جسدي، ليس هناك ملموس ليس لها حتى مكان في العقل. قل أي كلمة سوف يتصورها العقل.حتى العقل يتصوّر نفسه ،يتصور النّفس ،يتصوّر الجسم أما كلمة روح ليس لها معنى حسية وعقلية. نتكلم عن الأرواح الشريرة والأرواح الطيبة، فهل هناك أرواح شريرة؟ إن كانت الروح من عند الرب أم نقصد بالروح هي النّفس الشريرة والنفس الطيبة؟ ونتكلم عن العلوم الروحانية. ما المقصود بها بالزبط؟ هل تخص النفس؟ أم تخص العقل؟ أم تخص ماوراء الطبيعة أم ماذا بالزبط؟
كل هذا يعقّد الأمور أكثر للحديث عن الروح ومن الصّعب الحديث عن مفهوم اللوغوس في العامود الرّابع الذي هو “الروح”.
لو لاحظتم أن في العامود الأول تكلمنا عن المطحنة أي أن اللوغوس هو شيء فاعل وليس شيء فعلي مثل ما هو الحال في العامود الثاني “المادة الأولية” وليس مثل في العامود الثالث هو “العقل الكلي” .فهنا “الروح” هي فاعل ليس فعل المطحنة وإنما مطحنة من نوعٍ آخر مطحنة لا تطحن .هذه المطحنة هي الساعة أو الزّمن هي التي تحوّل الدّهر إلى زمن فهي ليست شيء مثل “المادة الأولى” و” العقل الكلي” وإنما فاعل وحركة هي التي أدت إلى ظهور الوجود .لو نلاحظ وسوف نفهم ذلك في الفيديوهات القادمة إن الواحد هو الأربعة وإن لم تفهم أمور هنا سوف تفهم في الفيديوهات القادمة. كل النّقط وكل الأفكار التي ذكرناها سوف نعود إليها واحدة واحدة ونفهمها أكثر عمقاً لكي نفهم الفكر الغنوصية بصفة عامة. فهذه الفيديوهات عن اللوغوس عبارة على رؤوس أقلام لما سوف يأتي بعد ذلك، لأن لا يمكن أن نفهم من دون انطلاقة وإن كانت الانطلاقة غامضة نوعاً ما، و لكن مع الوقت سوف تصبح أوضح وأوضح، فهذه الفيديوهات هي فتح آفاق العقل لكي يمكن أن يفهم ما سوف يأتي بعد ذلك وفتح أبواب الوعي عند النّفس لكي يقع تقارب بين الإحساس والأفكار.
إذاً مثل العامود الأوّل هذا العامود يتكلّم عن فاعل، وهذا الفاعل واحد مطحنة وواحد ساعة وليس هناك فرق بين روح وروح كما أن ليس فرق بين مطحنة ومطحنة وإنما هناك فرق بين عقلٍ وعقل وبين نفسٍ ونفس وبين جسم وجسم؛ حيث المطحنة أو الروح التي في كل واحد فينا تتشكل حسب المادة والعقل والنفس التي اندمجت معهم، وكما قلت سوف نفهم كل ذلك أكثر في الفيديوهات القادمة.
وهكذا وصلنا إلى آخر هذا الفيديو لكي نفهم أن النّظرية الرابعة للغنوصية في تفسير اللوغوس على أنّه الروح المتحركة التي أوجدت من العدم الوجود الذي نحن موجودين فيه والفرق بين الحركة الموجودة في الأزل والعامود الرابع إن الحركة الأولى كانت تطحن بينما هذه الحركة تتحرك في نفس المكان ولا تطحن شيء، ويمكن القول أن الوجود بدأ عندما تحرك العدم فظهر الوجود وهناك حديث قدسي يرمز لذلك “كنت كنزاً مخفياً فأردت أن أعرف فأظهرت الوجود.
أكتفي بهذا القدر في هذه الفيديو حول النّظرية الرابعة وأقول لكم شكراً على الاستماع. شكراً على التّشجيع. شكراً على التّوزيع ومع فيديو قادم وبالسّلامة…
0 تعليق