العقل – اللوغوس في المعتقدات
تكلّمنا في الفيديوهات السّابقة عن العامود الأوّل لفهم اللوغوس وهي النّظرية التي تقوم على الفكرة العبثية ،حيث أن اللوغوس مجرّد مطحنة للعدم في دورة أزلية تقوم على نظام؛ النّظام-الفوضى الفوضى-النظام النّظام-الفوضى الفوضى..إلى لانهاية ،فالفوضى هي التي تحكم الوجود ولا إلّا بالتّخلص من هذه الدّورة الأزلية والوصول إلى النّظام الكلي ،و هذه النّظرية أو الفكرة ظهرت قبل عشرات الملايين من السّنين عندما كان النوع الإنساني في عالم الحيوان ،وبهذه الفكرة أخرجت الإنسانيّة من عالم الحيوان إلى عالم الإنسان المستقل القائم بذاته.
كما تكلمنا في الفيديو السابق عن العامود الثاني لفهم اللوغوس وهي النّظرية التي تقوم على الفكرة المادية ؛حيث أن اللوغوس عبارة على المادة الأولى الأصليّة ،حيث إن هذه المادة الأولى عبارة على عقدة في العدم اتسعت وكوّنت الوجود المادّي ومن خلالها ظهرت الأفكار والوعي في عالم الوجود المادي ،أي إن في العدم ليس هناك وعي ولا أفكار ،عدميّة مطلقة لكن هذه العدمية عندما تمرّست في المادّة ظهرت ،أي الوعي والأفكار موجودين في المنظومة الماديّة التي نحن موجودين فيها لأنّها مرتبطة بالمادّة ،و إن هذه المادّة الأولى ماتت وانتهت وتركت مكانها للوجود والعالم المادّي الذي نحن موجودين فيه.
هذه النّظرية ظهرت قبل ملايين السنين وهي التي طوّرت الجسم المادي لدى الإنسان، وقضت على كل أنواع البشر الأخرى وتركت نوعاً واحداً من البشر هو الإنسان الماهر الذي طوّر استعمال اليدين والرّسم والنّحت والسّكن في المغارات.
في هذه الفيديو سوف نتكلّم عن العامود الثالث لفهم اللوغوس وهي النظرية التي تقوم على فكرة “العقل” ،أي إن اللوغوس هو العقل الكلي وهذه الفكرة جدّاً حديثة بالنّسبة للأعمدة الأخرى ،حيث ظهرت قبل مئات الآلاف من السنين ،وهذه النظرية هي التي أظهرت الكلام عند البشر وكوّنت ما نطلق عليه بالحضارة الكلاميّة التي تسبق الحضارة الكتابية .كما إن هذه الفكرة هي التي أظهرت الإنسان العاقل الذي بدوره انتشر في الأرض وقضى على كل من قبله واستعمر الأرض ومنه ينزل كل البشر الموجودون الآن ؛حيث كل الأنواع البشريّة الأخرى انتهت إما بالدّمج أو بالقتل أو بالزّوال والاندثار كليّاً ،ولم يعد موجود إلا الإنسان العاقل “هوموسيبيان”.
إذاً نحن أنباء الإنسان العاقل مباشرةً الذي كوّنوا الحضارة الكلاميّة لم يصل منها شيء مكتوب مع الأسف إلا القليل وهي التي يُطلق عليها الحضارة المنسيّة أو الحضارة المفقودة أو يُطلق عليها الأتلانتيك. هذه الحضارة أوجدت فكرة العقل والتّفكير حيث اعتبرت اللوغوس هو العقل الكلي، أي إن العدم هو مجرّد أفكار لانهائية تجمّعت في نقطة واحدة التي هي العقل الكلي، فاللوغوس بالنّسبة لهم عبارة على مخ مثل مخ الإنسان، وما المخ الذي في جسدنا ما هو إلا تمثيل مادي لما يُسمّى العقل الكلي. إذاً المخ ما هو إلا مقر العقل الكلي، ومثلما يعمل المخ في جسم الإنسان يعمل العقل الكلي لخلق الوجود أو لإظهار الوجود، ومن هنا جاءت فكرة الابن أو الكلمة أو الواسطة بين الأب والابن أو الواسطة بين الإله أو الرّب الأصلي والرّب الخالق؛ حيث نجد مثلاً في بعض الأحاديث القدسيّة تقول:” لم أخلق مخلوقاً مثل العقل، قلت له أدبر فأدبر، قلت له اقبل فأقبَل”. كما نجد في المعتقدات الحديثة والأديان فكرة خلق الكلمة التي منها انبثق الوجود. طبعاً كما تعلمون أن الغنوصيّة لا تُحدّد هل هناك رب أم لا، بل تعتبر فكرة الرّب مسألة شخصيّة على حسب مستوى الفرد هل هو بحاجة لذلك أم لا، ولكن التّعمّق في الغنوصيّة تجعلك تنفي كليّاً فكرة الرّب، بل تعتبرها عائقاً كبير لتطوّر الإنسان، ولهذا الغنوصيّة حُسبت على الزّندقة وعلى الالحاد.
نعود لفكرة اللوغوس على أنها عقلٍ كلي بطريقة مجرّدة كما ظهرت في الحضارة الكلاميّة بعيداً عن تأثيرات الأفكار الحديثة والتي دمجتها بفكرة الرّب. على حسب هذه النّظرية إن العدم مجرّد أفكار متشابهة كلها، ليس هناك فرق بين فكرة وفكرة لأنّها عدميّة. لكي نقرّب الفكرة للعقل الإنساني؛ العدم أزل من الأصفار وكل صفر يحتوي كل الأصفار الأخرى إلى لا نهاية.
أدري من الصّعب تخيّل أو تصوّر هذه الحالة ما قبل اللوغوس ،و في جميع النّظريات من الصّعب التّصور ما قبل اللوغوس؛ يمكن تصوّر المطحنة في العامود الأول وتصوّر مادة أولى في العامود الثّاني وتصوّر العقل الكلي في العامود الثالث لكن من الصعب تصوّر ما كانت عليه الحالة قبل هذه الأعمدة أي قبل اللوغوس ،ولهذا اعتبر اللوغوس هو الأوّل وهو البدء لأنّه المصدر المباشر لظهور العالم المادّي الذي نحن فيه ،أما قبل ذلك لا يمكن أن نتصوره لأنه ليس فيه لا زمان ولا مكان ولا أي شيء مما متعارف عليه في منظومتنا الوجودية، كما لا يمكن أن نفهم العدم ،لا يمكن أن نفهم الأزل ،لا يمكن أن نفهم لامكان و لازمان ولهذا كانت البداية اللوغوس.
اللوغوس في النّظريّة هو العقل الكلي، هذا العقل الكلي هو أحد العقول الأزليّة الذي يحتوي كل العقول الأزلية الأخرى وهو الصّفر الأوسط أو الصّفر المحايد؛ حيث جعل لكل صفر رقم انطلاقاً من ذاته؛ حيث يعتبر صفر الصفر ثم صفر واحد ،وصفر اثنان إلى لانهاية. طبعاً هنا الأرقام التي وُضعت للأصفار كانت أرقام سلبيّة أي صفر واحد سلبي وصفر اثنان سلبي وصفر ثلاثة سلبي إلى لانهاية.
طبعاً هنا الموضوع معقّد قليلاً وخاصّة إنّه حسابي ،ومن أجل فهمه يجب أن نستعمل التّشبيه البسيط لفهم الفكرة؛ هذه الفكرة تنطلق من فكرة إن العدم مربعات كل مربّع هو صفر عدمي ،ونحن نعلم إن كل صفر عدمي يحتوي كل الأصفار العدمية الأخرى في داخله لأن كلّهم عدم في عدم .بين هذه الأصفار العدميّة ظهر ما نطلق عليه الصّفر المحايد أو الصّفر الوسط .في وسط هذا الصفر العدمي المربّع ظهر صفر دائري ،وفي وسط الصفر الدائري ظهر المثلث المقدّس ،هذا المثلث المقدّس هو ثلاثة في واحد وواحد في ثلاثة ؛حيث يرمز إلى الصّفر العدمي الذي هو المربع وهو الأب والدائرة التي هي الصفر المريد أو الآمر الذي هو المكان ويطلق عليه الابن ،و المثلث الذي هو الصّفر الخالق أو المظهر وهي الحركة وهي أيضاً يطلق عليها الروح القدس.
مما يعطي شكل اللوغوس الذي هو العقل الكلي على شكل مربع في داخله دائرة في داخلها مثلث، و في وسط المثلث هناك كل الأصفار التي أخدت أرقام سلبية التي هي كل الأصفار في العدم. هذه الأصفار سوف تخرج بأرقامٍ إيجابية التي سوف تُظهر ما نطلق عليه الحروف أو الألحان ،و هذه الحروف أو هذه الأرقام أو هذه الألحان هي الإيقونات الأوليّة التي سوف تتكوّن منها الكلمات وتتكوّن منها السمفونيات وتتكوّن منها الأعداد ؛بحيث إن الحروف والموسيقى هي تحديد العدم في الوجود الحالي ومن الحروف سوف تتكوّن الكلمات ،ومن الكلمات سوف تتكوّن الجّمل ومن الجّمل سوف تتكوّن المواضيع ،ومن المواضيع سوف تتكوّن الكتب أو ما نُطلق عليه المعرفة وبهذه الطريقة على حسب هذه النظريّة ظهر الوجود من الفكرة الأولى ،من الكلمة الأولى ،من العقل الكلّي الذي يحتوي كل الأفكار الذي نطلق عليه اللوغوس.
أرجو أن أكون قد وضّحت الفكرة ولو قليلاً. إذاً لكي نسهّل الأمور أكثر هذه النظريّة تقول إن الفكرة هي التي أوجدت المادّة، وأن الأصل في الأفكار بخلاف النّظريّة الثّانية التي تعتبر المادّة الأولى هي الأصل وخلاف النّظريّة الأخرى التي تعتبر العبثية هي الأصل، وهنا المقصود بالعبثية الشيء غير المنظّم وغير مفهوم من الأساس.
هذه تعود كل شيء للفكرة حيث تعتبر الأفكار أزلية وقدمت للوجود على شكل أرقام وموسيقى وحروف وأشكال وتنظًمت وأوجدت المادّة؛ أي إن المادّة التي نشاهدها ليست حقيقة وليست دائمة، وإنّما الدّائم والأزلي والباقي هي الفكرة، هي الأصل وهي أصل الوجود، ويشبهون ذلك بفكرةٍ ظهرت في مخ إنسان فيرسمها أو يصنعها؛ مثل النّجار يتصوّر فكرة الكرسي أو الطّاولة فيظهره على شكل رسم أو كلمة أو يوجده بالفعل.
بالنّسبة لهم هناك عدّة أنواع من الوجود، ولكن الوجود الحقيقي والأصلي والأزلي الذي لا ينتهي هو الوجود الفكري.
أضرب لكم مثل على ذلك؛ فكرة الشّجرة مثلاً هي فكرة أزليّة موجودة من الأزل، وظهرت في اللوغوس. هي موجودة خالدة سواء ظهرت في الحقيقة أو لم تظهر. هذه الفكرة للشجرة لها عدّة أنواع من الوجود؛ منها الوجود الصّوري وهو تصوّر الفكرة ،و الوجود اللفظي وهو نطق الفكرة التي هي “شجرة” ،و الوجود الرّسمي وهو رسم الشجرة ، والوجود المادّي وهو ظهور الشّجرة في المادّة، فقطع كل أشجار العالم ومحو صورة الشّجرة في العقل ،وحذف نطق كلمة شجرة، وحذف كل رسوم الأشجار لا يمحي الفكرة الأصليّة للشّجرة التي هي موجودة في اللوغوس وسوف تبقى للأبد، فالخلد بالنّسبة لهم إلّا في الأفكار ،غير ذلك كل شيءٍ سوف ينتهي ،و يعتبرون إن الوعي أو ما نطلق عليه النّفس هي أعلى درجات الفكر ؛حيث إن الخلاص يقع عندما نرفع درجة معرفتنا إلى أن نصل إلى وعي يتّصل بالعقل الكلّي لأن الوصول إلى العقل الكلّي هو الوصول للخلد وإلى المعرفة الكليّة.
ومن هذه النّظرية ظهرت الفلسفات وأكثر الفلسفات التي تعتبر على هذه النظرية أو متبنيّة هذه النّظرية هي الفلسفة الهرمسيّة، أما من المعتقدات والأديان هي التي تتبنّى فكرة التّثليث، أو المثلث، أو الأهرام أو فكرة الإله الأصل والإله المدبّر والإله الخالق، و نجد في الدّيانات الابراهيمية أن المسيحيّة تأثرت بهذه الفكرة التثليثيّة حول فكرة الاب والابن والرّوح القدس.
أمّا في الإيديولوجيات نجد التكنوقراط ، وفكرة الطّبقة المثقّفة وظهور الطبقيّة الفكريّة بين ما يسمى طبقة العلماء ؛حيث المعرفة هي التي تفرّق بين إنسانٍ وآخر، ولهذا قسّموا النّاس على شكل هرم ما يُسمّى بالعامّة ،و الخاصّة، وخاصّة الخاصّة .خلال هذه المرحلة تطوّر علم الكلام وتطوّرت المعارف وانتقلت المعارف وتكوّنت أكبر الحضارات الكلاميّة التي مع الأسف لم يصلنا منها شيء مكتوب إلّا بعض الآثار وما نقلته لنا في الحضارة الكتابيّة من بعد ،فكل ما وقع في الحضارة الكتابيّة هو نتيجة موروث طويل لهذه الحضارة الكلاميّة التي دامت مئات الآلاف من السّنين قبل أن تندثر وتنتهي وتأخذ مكانها الحضارة الكتابيّة.
إذاً وصلنا إلى نهاية الفيديو. أظن أن الفكرة واضحة ولو لم تفهموا شيء أو تريدون تفاصيل أكثر ما عليكم إلّا بالسؤال.
شكراً على الاستماع. شكراً على التّشجيع. شكراً على التّوزيع، ومع فيديو قادم و بالسّلامة….
0 تعليق