العبثية – اللوغوس في المعتقدات
تكلمنا في الفيديوهات السابقة عن إن اللوغوس ليس الزمان ولا المكان، وتكلمنا في الفيديو الأخير على أن اللوغوس لا يمكن أن نفهمه إلّا بأنفسنا. كما أجبنا على سؤالين مهمّين؛ الأول من أين أتت فكرة اللوغوس ،و الثّاني هل اللوغوس موجود فعليّاً أم لا.
في هذا الفيديو الخامس سوف نتكلّم عن تعريف اللوغوس في المعتقدات والأديان البشرية.
أولاً يجب أن نعرف نقطة مهمة والتي دائماً نكررها وهي مسألة التّداخل الذي يُحدث نوع من التّذبذب في فهم الفكرة مثل التّداخل الموجود بين الواحد السّلبي والصّفر، أو التداخل الموجود بين الصّفر والواحد الإيجابي ،فمن الصّعب للعقل أن يحدّد من هو الأول، وخاصّة نحن نعلم أن كل شيء مهما كان له مقدّمة.
هل المقدمة تُعتبر هي الأول أم إن الشيء عندما يظهر يُعتبر هو الأوّل! فكل المعتقدات والأديان مهما كانت تعتبر اللوغوس هو المقدمة المباشرة للوجود الذي نخن موجودين فيه، وعندما أقول المقدّمة المباشرة يعني أنهم يعتبروه هو الأول الذي ينطلق منه كل شيء وفي نفس الوقت لا يعني أنه بدروه ليس له مقدّمة. ولأن العقل البشري لا يمكن أن يفهم الأمور دون تحديد ودون انطلاقة نقول أن اللوغوس هو الأول بدون التركيز على من يكون قبله حتى نفهم ما هو بعده؛ الذي هو الوجود الحالي. من هنا جاءت الاختلافات بين المعتقدات والأديان في تحديد معنى اللوغوس.
طبعاً هنا سوف لا نتكلّم عن كل المعتقدات والأديان ورأيها في اللوغوس لأن ذلك سوف يأخذ منا وقتاً طويل .لأن كل دين وكل معتقد مهما كان فيه مدارس مختلفة ،وكل مدرسة لها نظرة خاصّة عن اللوغوس هذا من جهة ،ومن جهةٍ أخرى إن كل مدرسة لها نظرية تعطيها للعامّة ونظريّة تحتفظ بها للخاصّة وللعارفين ،ولكن كل المعتقدات والأديان والفلسفات مهما كانت تنطلق من الأفكار الأساسية عن اللوغوس.
هناك خمسة أعمدة أو أفكار أساسية عن اللوغوس كل واحدة قائمة بذاتها ومستقلة عن الآخرين ،فكل معتقد أو دين أو فلسفة يتبنى إحدى هذه الأعمدة الخمسة أو يدمج بين اثنين منها أو أكثر ويكوّن معتقداً خاصاً به يظهر جانب منه للعامة ويترك الباقي للخاصّة.
إذاً سوف سوف نتكلم عن هذه القواعد الخمسة لفهم اللوغوس كل واحدة على حدى ،وعندما نفهم هذه القواعد الخمسة الأساسية يمكن لك بعد ذلك أن تفهم أي معتقد أو دين أو فلسفة و تعرف هل هي تتبنّى قاعدة واحدة أم أكثر ،وما هي القواعد التي تتبناها.
وسوف نتكلم في هذه الفيديو عن القاعدة الأولى أو العامود الأول أو النظرية الأولى وهي الأقدم التي عرفتها البشرية في أول ظهورها. هذه القاعدة الأولى أو النظرية الأولى لفهم اللوغوس سوف نطلق عليها كلمة “العبثية” وهذه الكلمة لا علاقة لها بالمفهوم الفلسفي للعبثية المتعارف عليها اليوم ،وإنّما استعملنا هذه الكلمة لأنها الأقرب لفهم النظرية الأولى حول مفهوم اللوغوس على أنه شيء عبثي غير منظّم كما يُقال بالتونسيّة “شكشوكة” أي غير مفهوم وغير منظّم والذي يُطلق عليه بالفرنسيّة le chaos
هذه النّظرية الأولى عرفتها البشريّة لفهم اللوغوس لم تأتي من فراغ ،وإنما من واقع كان يعيشه الإنسان الأوّل في عالم الحيوان والطبيعة. عندما وعى الإنسان الأوّل قبل مئات الآلاف من السّنين ورأى ما حوله من فوضى وصراع لامتناهي في تغييرات مناخية وكوارث طبيعية وحيوانات متوحشة وطبيعة قاسية من حرٍ وبرد ذُهل الإنسان ووعى على عالمٍ حوله كله فوضى، لم يفهم شيء ولم يستوعب شيء هذا من جهة.
ومن جهة أخرى رأى أن كل شيء ذاهب نحو الزوال كما يُقال بالفرنسيّة éphémère أشياء تأتي وتزول وهناك الموت حيث كل إنسان أو كل شيء يولد ويموت في حركة غير متناهيّة، مما جعل الإنسان الأول يفهم اللوغوس أو الوجود الأوّل على أنه نسخة مطابقة للأصل للوجود الذي هو فيه ،فاعتبر اللوغوس الأول عبارة على فوضى وزوال.
عبارة على مطحنة كبيرة تدور دون نظام ولا قواعد وتظهر الوجود ثم تطحنه من جديد لكي تظهر مرة أخرى إلى لا نهاية. هذه الفكرة البدائية الأولى التي فهمها الإنسان لتعريف اللوغوس انطلاقاً من الواقع الذي وعى عليه. صحيح أنه اعتقد هناك بداية وهذا هو المهم والأهم ،ولكن اعتبر هذه البداية مجرّد فوضى أو مطحنة تُظهر الوجود أو الموجودات وتطحنهم من جديد إلى لانهاية.
في هذه المرحلة المبكرة من الوعي الإنساني لم يفكّر في ما هو موجود قبل اللوغوس وإنما فكر الإنسان في هذا الأول قبل هذا الوجود واعتبره هو الأول ،لكن هذا الأول اعتبره مصدر فوضوي غير منظم أي فكرة الرب لم تكن ملتصقة بفكرة اللوغوس.
إذاً في تلك المرحلة فكرة اللوغوس لم يكن يرمز لا للرب ولا أنه أوجده الرب ،بل فكرة الرب كانت مرتبطة كانت مرتبطة بالإنسان وبطريقة أدق كانت مرتبطة بالأب أو برئيس القبيلة. هناك نقطة مهمة يجب الانتباه إليها وهي أن المصدر غير مهم -وهنا نقصد اللوغوس -لأن المصدر فوضى وإنما الأهم هو الصادر أو الظاهر الذي يُحدث النظام لهذه الفوضى ،ولهذا في هذه المرحلة التي عرفتها البشرية كانت الأم التي هي مصدر الأولاد غير مهمة وإنما الأهم هو الأب أو الذكر أو رئيس القبيلة الذي ينظّم القبيلة.
عندما وعى الإنسان وحدد اللوغوس أو الأول على أنه فوضى لم تكن هناك أخلاق عند البشر ولا قواعد غير قاعدة البقاء فقط. لاشيء ينظم الإنسان وحاله حال الحيوان إلّا أنه واعي بتلك الفوضى التي حوله أكثر من الحيوان ، ومن هنا جاءت فكرة التنظيم لهذه الفوضى ،و من هنا جاءت فكرة الرب المنظّم لهذه الفوضى، فمفهوم الرّب في هذه المرحلة ليس الواجب أو الخالق أو المظهر وإنما مفهوم الرب هو المنظّم والمسيّر الذي كان في ذلك الوقت يرى الإنسان أنه الرّب وكما قلت يتمثّل في الذّكر أو في الأب أو في رئيس القبيلة الذي ينظّم المجموعة.
بسبب هذه الفكرة التي تعيد المنظم إلى الفوضى فكّر الإنسان في نقل الذاكرة إلى الجدد ؛أي أن الإنسان وعى إن من يأتي يموت ويعاد طحنه وينتهي كلياً ولهذا يجب أن ينقل المعرفة إلى الأجيال القادمة لكي لا تضيع المعرفة وتحافظ الأجيال الجديدة على التراث لكي تطوّره أكثر وأكثر ويتقدّم الإنسان. وهكذا يتحوّل من مقدّم معرفة أو شيء للمجموعة إلى رمز وذاكرة وإلى رب للمجموعة أو القبيلة ،ومن هنا جاءت فكرة التوارث والتّعلم والمحافظة على التّقاليد.
كما إن هذه الفكرة رغم أنها عظمت الإنسانية أو البشرية بصفة عامة وعظمت الأب أو رئيس القبيلة ،ولكن في نفس الوقت لم تعطِ أي قيمة للفرد ؛حيث غير مهم لو 90%من القبيلة تموت الأهم أن يبقى الرئيس أو الأب الذي هو رب القبيلة. غير مهم كم يموت ،المهم البقاء والاستمرارية.وهنا الذي يبقى و يستمر هي الأفكار والاعتقادات والنظام. لهذا هو أهم من الإنسان نفسه ،لأن الإنسان يموت ويُطحن وينتهي.
ومن هنا جاءت فكرة إن الفكرة أو المعتقد أهم من الإنسان نفسه الذي يأتي ويذهب؛ حيث إن الموجودات ومنها الإنسان هم بدورهم عبارة على طاحونة والطاحونة بحد ذاتها غير مهمة الأهم ما تطحن وما تُخرج لنا هكذا الإنسان بحد ذاته غير مهم ،الأهم ما يقدم من أفكار ومن أعمال ينقلها للأجيال القادمة ،لأن ما يخرجه من داخله وما يقدّمه هو الذي يورّث وهو الذي يبقى ،أما هو بحد ذاته فيذهب إلى الزّوال.
إذاً وصلنا إلى آخر الفيديو وفهمنا أن هذه النظرية الأولى لفهم اللوغوس تعتمد على فكرة إن اللوغوس عبارة عن مطحنة لا قيمة له بحد ذاته وهو عبارة عن رمز أو أداة تطحن العدم الذي هو نوع من الوجود المجهول الفوضوي وتظهره على ما هو عليه نحو الزوال و العودة إلى الفوضى، وإنما الذي يبقى هو الأفكار والانجازات التي تتوارث في هذا الوجود المعلوم.
أي كل موجود في هذا الوجود بحد ذاته مثل اللوغوس؛ أداة تقوم بالعمل وإخراج الأفكار والأشياءلكي تتركها للتاريخ وتورثها للأجيال القادمة ،فهذا الموروث هو المهم وغير ذلك غير مهم. أهميّة اللوغوس إنه هو الطّاحن ولكن الأهم الذي يخرج من هذه المطحنة والذي يورث للأجيال القادمة.
طبعاً هذه الفكرة عن اللوغوس نجدها بطرق مختلفة في كل المعتقدات و الأديان والفلسفات ما عليك إلا الانتباه إليها.
على سبيل المثال نجدها في فكرة الدّفاع على التراث وعلى التقاليد والجهاد، والتضحية من أجل الوطن،والتضحية من أجل الدين، والتعليم والإنجاب ،وترك اسمنا أو ترك من يرثنا وغيرها من الأفكار. كما أن هذه الفكرة نجدها واضحة في بعض الإيديولوجيات والفلسفات مثل الفلسفة العبثية والفوضوية… والشيوعية والعدمية وحتى في البوذية؛ حيث يؤمن البعض أن الوعي أو الأفكار تتشتت وتظهر من جديد في عدة أشخاص مثلما يتشتت الجسم المادي.
أظن الآن الفكرة واضحة ومفهومة لديكم حول هذا المفهوم للوغوس، ولو لديكم أسئلة لا تترددوا في السؤال لكي تفهموا جيداً .هذه النظرية الأولى لمفهوم اللوغوس.
اليوم الأشخاص المتأثرين نوعاً ما بهذه الفكرة نجدهم أكثر لاأدرييين ،غير مهتمين ،لا يعطون قيمة للنظام ويعيشون اليوم يومه، ولا يسألون كثيرا ولا يريدون أن يعرفوا لأن في نظرتهم الداخلية أنهم سوف يذهبون نحو الزّوال، وتجد عندهم كثير من الإحباط لفهم الوجود وفهم الكون، مستسلمين للواقع والذي هم فيه ،يعيشون حياتهم ثم يموتون ولا يهتمون بشيء؛ حيث يعتبرون أن كل النظريات التي تُقال حول الوجود وحول لماذا وجدنا وإلى أين نذهب كلها محاولات فاشلة ،وليس لها أي أهمية.
طبعاً أنا هنا لا أحكم على أفكارهم. كل إنسان حر أن يعتقد ويؤمن بما يريد. المهم والأهم أنه يكون مرتاح فيما يعتقد فيه ولا يضر غيره طبعاً.
أخيراً شكرأ على الاستماع. شكراً على التشجيع. شكراً على التّوزيع ،ومع فيديو قادم و بالسلامة…..
0 تعليق