مقدمة اللوغوس في الغنوصية
بعد أن تكلّمنا عن أن الدهر والزمان ليسا اللوغوس وإنما حركة اللوغوس وتكلمنا على أن العدم والفراغ ليسا اللوغوس أيضاً، في هذه الفيديو سوف نتكلم عن اللوغوس نفسه الذي يُعتبر من أهم الكلمات غموضاً في الفكر الديني والفلسفي واللّغوي في الشّرق والغرب بل عند كل البشريّة من أوّل وجودها إلى اليوم.
إذاً تعريف اللوغوس للآخرين مثله مثل عندما تريد أن تعرف للشخص المولود أعمى الألوان. فكيف يمكن لك أن تصف له مثلاً اللون الأحمر أو الأزرق وهو لم يعرف في حياته كلّها الألوان؟
إذاً تعريف اللوغوس يُعتبر شبه مستحيل إن لم أقل مستحيل كليّاً. إذاً معرفة اللوغوس هي مسألة شخصيّة فرديّة ومهما قيل ومهما تم تفسيره عنه من طرف الآخرين ما هو إلا وجهة نظر تقريبيّة لا أكثر ولا أقل تساعدك على الوصول إلى فهمك الذّاتي الخاص بك ،وهذا الفهم يتطوّر مع تطوّر الوعي لديك ومع الوقت والتّأمل.
إذاً ما أقول هو فهمي الخاص للوغوس وعليك أنت أن تصل إلى فهمك الخاص وهذه هي الغنوصيّة أن تثق بذاتك فقط وأن تعيش أحاسيسك و أفكارك بكلّ صدقٍ دون تأثيرٍ خارجي مهما كان.
ولأن اللوغوس مستحيل فهمه من طرف الآخرين مهما كانوا ومهما يملكون من معرفته لديهم ومهما كان أسلوبهم منطقي وسهل يجعلنا نتّبع الأسلوب المعرفي الخام للحديث عن اللوغوس، و ذلك سوف يكون في عدّة فيديوهات توصلك في الأخير إلى أن تكون لك فكرة خاصّة بك عن اللوغوس.
أوّل شيء يجب أن نعرفه هو من أين أتت فكرة اللوغوس؟ وثانياً هل هو موجود فعلاً وحقيقةً أم تصوّر إنساني فقط؟
أمّا السّؤال الأوّل لا يمكن أن نحدّد متى ظهرت فكرة اللوغوس لأنّه قديم قدم الإنسان منذ مئات الآلاف منذ السّنين وكان لا يعلمه إلّا خاصّة الخاصّة فقط.
أمّا ظهوره بعد عصر الكتابة كان واضحاً في الرسوم الهندسية قبل التّاريخ على شكل نقط أو دائرة أو مثلث أو مربّع أو نجمة أو غيره، بل الرّغبة في رسمه في اللأوّل هي التي فتحت الباب للبشريّة لكي تتعلّم الرّسم في الكهوف بوضع النّقطة التي هي رمز اللوغوس في الأشكال.
وهذه النقطة كانت موجودة في السّلاح الذي استعمله الإنسان في الأوّل والحجارة المصقولة. أما من تكلّم عن اللوغوس في عصر بعد ظهور الكتابة كانت الأديان والمعتقدات، تتكلم عنه وتطلق عليه عدّة أسماء مثل الرّب أو الأب أو الأول أو رب الأرباب أو المجهول.
ليس هناك دين أو معتقد مهما كان بسيطاً لم يتكلّم عن اللوغوس وأعطاه وصف واسم وإشارة ،ولكن كلمة اللوغوس كما هي اليوم معروفة لدينا تعود إلى العصر القديم اليوناني.
و أوّل من فصّل فيه وتكلّم عنه هو الفيلسوف الغنوصي اليوناني المعروف هرقليطس (هيراكليت) هذا الفيلسوف الغنوصي الغامض الذي ظهر قبل سقراط والذي عُرف أنّه لم يكتب ولم يترك لنا شيئاً مكتوب.
ولكن وصلت لنا كثيرٌ من أفكاره عن طريق تلاميذه وعن طريق الفلاسفة الذي من بعده مثل أفلاطون وسقراط. و يمكن القول أن فكرة اللوغوس أصبحت معروفة من بعده رغم أنّه تكلّم عنها بغموضٍ كبير.
ومنذ ذلك الوقت أصبحنا نسمع عن اللوغوس في كل الفلسفات والمعتقدات والأديان مهما كانت ،وهذا ما سوف نعرفه في الفيديو القادم. أما في هذا الفيديو سوف نجيب عن السّؤال الثّاني المهم وهو هل اللوغوس حقيقة فعلية أم مجرّد تصوّر إنساني فقط؟
من الصّعب الإجابة عن هذا السؤال بالقول أنّه حقيقة مطلقة ولكن في نفس الوقت من الصّعب القول أنّه مجرّد خيال إنساني ،لأن الواقع و المنطق يدل على أن اللوغوس موجود فعلياً رغم أنّنا لا يمكن الجزم بالأدلة الماديّة على ذلك رغم كل الأدلة الموجودة.
مثلما لا يمكن أن تنكر وجود جدّتك العاشرة وفي نفس الوقت لا يمكن أن تثبت لنا ذلك وجود مادي لأن ليس أي أدلة ماديّة على وجودها إلا وجودك أنا بالذّات. إذاً وجودنا هو أكبر دليل على وجود أول، مثل وجودك هو أكبر دليل على وجود أجدادك.
إنطلاقاً من هذه الفكرة التي فكّر فيها الإنسان الأوّل وصل إلى فكرة اللوغوس وجعله يخرج من عالم الحيوان إلى عالم الإنسان. لا أتصوّر أن هناك موجود على هذه الأرض فكّر في أصله غير الإنسان ولهذا تُعتبر الإنسانية موجود مميز قائم بذاته يختلف كليّاً عن بقيّة الموجودات.
صحيح أن الإنسان خرج من عالم الحيوان ولكن لا يعني أنه حيوان بل أصبح موجود مستقل ينتمي لعالم الإنسانية ،مثل عالم الحيوان الذي خرج من عالم النبات ،ولا يمكن أن نقول أن الحيوان نبات لأنه خرج من عالم النبات، بل هو عالم مستقل بذاته يطلق عليه عالم الحيوان ،ونفس الشيء عندما يولد الإنسان من والديه لايعني أنه هو والديه بل إنه كائن مستقل قائم بذاته.
الخروج من شيء لا يعني أننا الشيء الذي خرجنا منه ،مثل الدمية الروسية التي يُطلق عليها ماتريوشكا ؛وهي دمية في داخلها دمى أخرى أقل حجماً ولكن كل دمية مستقلة بحد ذاتها ولكن في الظاهر عندنا دمية واحدة تحتوي الدمى الأخرى. هذه فكرة تقريبية للوغوس الذي يحتوي ما كان و ما يكون و ما سوف يكون.
إذاً فكرة اللوغوس انطلقت عند الإنسان وهو في عالم الحيوان عندما وعى وتأمل فيه وما حوله وفهم أن لا شيء يأتي بدون مقدمة وظروف وعوامل تؤدي إلى وجوده .وعى أنّه يأتي من أبوين.
وأن الشجرة تأتي من البذرة وعلى هذا انطلق في التّأمل والبحث في الوجود ،وهكذا بدأت المسيرة الإنسانية للخروج من عالم الحيوان وتكوين مملكة الإنسان وطرح إحدى الأسئلة الوجودية المهمّة :من أين أتينا؟
سؤال لم يطرحه إلّا هو فوق هذه الأرض عندما وصل إلى الوعي الكافي لطرح السؤال والبحث فيه.
انطلاقاً من هذه الفكرة كل شيء له مقدمة أو كما يُقال كل سببٍ له مسبّب ،حيث لا يمكن أن يوجد شيء بدون مقدّمة أو بدون سبب ،وهكذا وصل الإنسان إلى الفكرة أنه هناك شيء أول لكل ما هو موجود ،وهذا الشيء الأوّل هو أصل كل ما هو موجود و ما سوف يوجد هذا الشيء الأوّل هو الذي نطلق عليه لوغوس.
. إذاً فكرة اللوغوس هي جعل بداية ننطلق منها تسبق كل ما هو موجود الآن أو ما سوف يوجد في المستقبل. بغض النظر عن ماهية اللوغوس وهل بدوره له مسبّب أو مقدّمة أم لا.
كل هذا غير مهم لأن الأهم هو الانطلاق من نقطة بداية تسبق كل شيء تكون هي الأصل ،وهي الانطلاقة وهي الرمز الذي يعود إليه كل الأشياء الموجودة في هذا الوجود. إذاً اللوغوس هو الأصل الأول أو النّقطة الأولى التي انطلق منها كل الأشكال ،وهي العدد الأول أصل الأعداد الذي يحتوي كل الأعداد وهو الصّفر.
إذاً الذي أردت أن أقول هنا هو أن فكرة جعل أول أو فكرة جعل بداية ننطلق منها بغض النّظر عن كل شيء هو الطريق والأسلوب الوحيد الذي يجعل الإنسان يفكّر ويدبّر ويبحث. لا يمكن أن تفهم لو لا تحدد الأمور ،لا يمكن لعقولنا أن تستوعب لو لا يكون هناك إطار .هذه ميزة الإنسان؛ إنّه يحدّد ويجزّء لكي يفهم.
هذه الخاصيّة وعى الإنسان ولم تعِ لها الموجودات الأخرى فوق هذه الأرض وعلى قدر ما يكون الإنسان أكثر وعياً على قدر ما يُحدّد الأمور سواء في الزّمان والمكان ،وعلى قدر ما يحدّد على قدر ما يفهم ويستوعب و يتقدّم. الشخص الذي لا يعطي قيمة للزمان والمكان يعيش دون تحديد هو أقرب منه للحيوان منه إلى الإنسان ،ويرى حياته تمر دون أن يقدّم شيئاً أو يتقدّم.
إذاً تقدّمت الإنسانية عندما وُجد أشخاص حدّدوا الأمور ووضعوا الأهداف وأخرجوا البشريّة من عالم الحيوان إلى عالم الإنسان.
إذاً فهمنا في هذا الفيديو أن اللوغوس هو الشيء الأول لهذا الوجود الموجودون فيه وضعه الإنسان لكي يفهم المنظومة الوجودية التي نحس فيها واعتبرها نقطة البداية والانطلاقة الأولى والرّمز الذي منها فهم الوجود.
إذاً هكذا وصلنا إلى آخر الفيديو وسوف نعرف في الفيديو القادم اللوغوس على حسب المعتقدات والفلسفات الإنسانية قبل أن نتعرّف على اللوغوس على حسب المعرفة الغنوصيّة وأخيراً على حسب فهمي الخاص.
أرجو أن أكون بهذا الفيديو وضعت نقطة البداية لفهم ومعرفة اللوغوس كل واحدٍ على حسب درجة وعيه ومعرفته.
شكراً على المتابعة. شكراً على التّشجيع وشكراً على التّوزيع و مع فيديو قادم وبالسّلامة..
0 تعليق