مفهوم اللوغوس اليوم
لقد تكلّمنا في الفيديوهات السابقة عن المراحل التي مرّت بها البشرية لفهم اللوغوس من مرحلة ظهور البشر كنوعٍ مستقل كليّاً عن عالم الحيوان؛ حيث تقسّم الغنوصية الوجود إلى جماد ونبات وحيوان وبشر، وهذه البشرية ولدت ومرت بمرحلة الطفولة التي اكتشفت فيها فكرة اللوغوس وفهمته خلال هذه المرحلة على أنه “مطحنة” للفوضى العدمية إلى الفوضى المادية التي أدّت إلى ظهور عالم الوجود المادي.
ثمّ انتقلت البشرية إلى مرحلة المراهقة التي كانت المادة والجسم هي الأساس، حيث اعتبرت اللوغوس “المادّة الأوليّة” التي تشكّل منها كل هذا الوجود المادي. ثم دخلت البشرية قبل مئات الآلاف من السنين إلى مرحلة الشباب وهي المرحلة التي فهمت فيها اللوغوس على أنه “العقل الكلي”.
دخول البشرية مرحلة الشباب كان في آخر مراحل تطور الجسم وبداية ظهور العقل الذي أدت إلى ظهور الإنسان العاقل الذي هو النّوع البشري الوحيد الذي يعمّر الأرض اليوم. للتذكيز:
أولاً: الغنوصية لا تعتبر البشرية حيوان، بل هو نوع مستقل ظهر في مملكة الحيوان، ومن هذه البشرية أو أنواع البشر ظهر الإنسان.
ثانيّاً: الغنوصية تفرق بين كلمة بشر وإنسان، حيث إن كل إنسان هو بشر وليس كل بشر هو إنسان.
أنتم تعلمون أن كل فكر او تيّار فكري له مصطلحاته، ولا يمكن فهمه إلا من خلال مصطلحاته، ولا يمكن أن نفهم فكر بمصطلحات فكر آخر، وبصفة عامّة؛ المتكلمين باللغة العربية لهم مشكل كبير في ربط فهم المصطلح على حسب تياره الفكري، فهم يحاولون فهم التيارات الفكرية الأخرى على حسب مصطلحاتهم المنقولة والموروثة مما يجعلهم لا يفهمون الآخر. لهذا قبل أن نحاول فهم فكر أو تيار فكري معيّن يجب أن نتجرّد من مفهومنا الخاص ونتعلم الأبجدية الفكرية للتيار الذي نريد أن نعرفه لكي نفهمه من خلال مصطلحاته. هكذا الأمر لمن أراد أن يفهم الغنوصية يجب عليه فهم مصطلحتها.
إذاً بالنّسبة للغنوصية، ظهور الإنسان كان مع دخول البشرية”عصر العقل” وظهور الإنسان العاقل، وهي بداية الشباب للبشرية، وفي هذه المرحلة التي نحن موجودون فيها فهم الإنسان اللوغوس على أنه “العقل الكلي” والتي انطلقت بمرحلة فوضى العقل، ثم مادة العقل، ثم عقل العقل، ثم روح العقل وأخيراً نفس العقل.
في هذه المرحلة الأخيرة من عصر العقل أي قبل آلاف سنين أصبح الإنسان العاقل هو الوحيد فوق هذه الأرض ،و من هنا جاءت فكرة آدم وحواء أصل الإنسان الحالي ،و من هنا جاءت فكرة الرّب أو الأب من فكرة “النّفس الكليًة” وظهرت الديانات الطبيعيًة وفي الأخير ظهرت ما نطلق عليها الديانات الاصطناعيّة أو السّماوية ،و يمكن القول إن تاريخ الإنسان الحالي بدأ مع ظهور الكتابة الحرفيّة وظهور الحضارات التي تركت تاريخها المكتوب من الحضارة السومرية إلى اليوم.
الآن البشرية بصفة عامة والإنسانية بصفة خاصّة تستعد للخروج من “عصر العقل” للدخول في “عصر الروح” أو دخول مرحلة الكهولة أو الرشد على حسب تقسيم عمر الفرد، وطبعاً في هذه الفيديو الذي يهمّنا هو الحاضر وليس المستقبل بعد أن تكلمنا عن الماضي ،و طبعاً المستقبل يمكن أن نتكلم عنه في الفيديوهات القادمة ،و لكن يبقى مجرّد افتراضات حتى نعيشه بالفعل لكي نتكلّم عنه.
حيث كما تعلمون أن الغنوصيّة تعتبر مرحلة آنية حالية وتعتمد على التّطور والتًغيير دائماً وضد كل ما هو جامد وقار و تعتبر التغيير هو الثابت الوحيد في الوجود ومن لا يتغيّر لا يتقدّم، وترفض فكرة الجمود كليّاً ، وتعتبر الجّمود المدمّر الوحيد للوجود وضدّ طبيعة الوجود. لا جمود في الوجود من جميع الجوانب حتى ولو نعتقد أنّنا جامدين ولا نتغير فرغم أنفنا نتغير ونتبدّل.
المهم في هذه الفيديو سوف نحاول أن نفهم اللوغوس على حسب عصرنا، ولكن في نفس الوقت أقول أن الحقيقة التي نعتبرها حقيقة اليوم قد تصبح ليست حقيقة في المستقبل أو حقيقة ناقصة، حيث أن الغنوصية تؤمن أن الحقيقة الآنية وغير كلية ونسبية بالنسبة للبشر الذي مازال في أول الطريق نحو المعرفة والفهم. المهم والأهم بالنّسبة للغنوصيّة أن نعيش عصرنا وأن لا نعيش العصور السّابقة لأنها لا تناسب درجة الوعي الذي وصلنا إليه اليوم.
كما أن من الصّعب عيش المستقبل لأنه مهما حاولنا ومهما تطوّرنا لا يمكن أن نعيش زمان ليس نحن فيه، ولهذا تعتبر الغنوصية عيش عصرنا ووقتنا وزماننا هو المطلوب، ومن يتعلّم يعيش عصره يمكن أن يعيش العصور الأخرى ومن لا يتعلم يعيش عصره لا يعيش العصور الأخرى.
إذاً حاول أن تكون ابن زمانك ولا تتبع زمان أجدادك ولا تجعل اولادك يعيشون زمانك وساعدهم وشجعهم لكي يعيشوا زمانهم. كما قال علي:” لا تؤدبوا أولادكم بأخلاقكم، لأنهم خلقوا في زمان غير زمانكم”.
إذاً السؤال الذي سوف نحاول أن نجيب عليه في هذه الفيديو: ما هو مفهوم اللوغوس اليوم؟
الجواب على السؤال هو: إن مفهوم اللوغوس اليوم هو مجموعة تراكمات منذ ظهور البشرية إلى اليوم. كل هذه المفاهيم للوغوس التي تطرحتها في الفيديوهات السابقة هي مفاهيم اللوغوس المحدّثة على حسب عصرنا.
أضرب مثال للتوضيح: مفهوم اللوغوس على أنه “المادة الكلية” أو المادة القديمة الأولى هو مفهوم ظهر قبل ملايين السنين وتطوّر خلال هذه المرحلة ووصل إلينا كما هو عليه اليوم ،أي إن الفكرة الأساسية إن اللوغوس هو “المادة الأولية” ومنه يأتي كل هذا الوجود المادي هي نفسها ولكن مفهومها وتفاصيلها محدّثة على حسب العصر.
حيث اليوم الفكر المادّي الذي يرى كل شيء مادّة أو صادر عن المادة هو فكر قائم بذاته ومعاصر رغم ظهوره قبل ملايين السنين ويعتبر مساوي في التحديث مع فكرة أن اللوغوس هو “العقل الكلي” أو الفكرة التي تسبقها أن اللوغوس هو “المطحنة للفوضى” الذي يقوم اليوم على فكرة الفوضى الخلاقة والصراع من أجل التّطور. كل هذه المفاهيم الأساسية هي اليوم محدّثة ومعاصرة ومتساوية وموافقة للعصر الذي نحن فيه. على كل فردٍ أن يختار ما يناسبه وما يوافق طبيعته كمرحلة أوليّة للسّير في هذه الحياة.
إذاً نعيد السؤال: ما هو اللوغوس اليوم؟
الجواب: هناك ثلاثة مفاهيم للوغوس أساسية:
الأوّل: الفوضى- اللاسلطة -الصّراع.
الثّاني: المادّة- العلم الملموس -التّجربة.
الثّالث: العقل- الفكر -الفلسفة -المعتقدات.
هذه المفاهيم الأساسية الثلاثة التي عشناها والتي نحن في آخر الثالثة منها، وهناك مفهومين أساسيين سوف نعيشهم في المستقبل هما: المفهوم الأساسي الذي يعتمد على “الروح” والمفهوم الأساسي الذي يعتمد على “النفس”.
كل مفهوم من هذه المفاهيم الأساسية ينقسم إلى خمسة مما يجعل لنا 15مفهوم عشناهم و10 مفاهيم سوف نعيشهم في المستقبل.
نعيد السؤال للمرة الثالثة: ما هو مفهوم اللوغوس اليوم؟
الجواب: أي مفهوم من كل هذه المفاهيم الذي يناسبك أكثر والذي يوافق طبعك، لا يجب أن يكون مفروضاً أو موروثاً ولا تقليداً، ولهذا يجب أن تعرف نفسك قبل كل شيء، قبل أن تختار المفهوم اللذي يناسبك في الأوًل ومنه تنطلق للتّطوّر نحو الأفضل خلال مسيرة حياتك في هذا الوجود ويكون طريقك نحو المعرفة والخلاص.لا يكفي أن تعرف نفسك إن لم يكن لك ما تختار لها ،و لا يكفي أن تعرف الخيارات إن لم تعرف نفسك لكي تحسن الاختيار. كل واحد مربوط بالآخر.
إذاً الآن عندما عرفت الخيارات يجب أن تعرف نفسك واختَر لنفسك ما يوافقها أكثر من الأول نسبياً ثم تقدّم نحو الأفضل والأكثر موافقة لطبعك. ليس مهم ما تختار وليس هناك خيار أفضل من الآخر. الجّيد هو ما يناسبك والأسوء هو ما لا يناسبك، ولهذا أهم شيء هو حسن الاختيار.
نحن نعرف إن الأفراد غير متساويين في المعرفة والوعي وهذه الحقيقة مع الأسف مؤلمة، ولهذا لا يجب فرض مفهوم واحد للجميع وهذا عدلٌ وجودي، عندما لا تكون مساواة يصبح العدل نسبي ويختلف من شخصٍ إلى آخر.
أضرب مثال ملموس: عندما يكون هناك غنّي وفقير العدل أن نعطي للفقير أكثر من الغنّي، وليس أن نساوي في العطاء وإلا يتحوّل ذلك إلى ظلم.
نفس الشيء بالنّسبة للمعرفة نحن مع الأسف لا نولد متساوين وكل واحد منا يولد بسعة تقبّل للمعرفة محدودة. هناك على سبيل المثال من يولد بسعة 10 وهناك من يولد بسعة 20 وهناك من يولد بسعة 30 …، وكل منا يملأ خلال حياته هذه السعة بنسبة 20% أو 50% أو 100% ولكن خلال حياتنا يمكن تفقد السعة وتقلص منها كما يمكن أن نزيد هذه السعة ونوسع فيها، واتساع السعة للمعرفة أو نقصانها يعود لعاملين مهمين: العامل الأول خارجي؛ متعلق بالمكان والمجتمع والعائلة ومن هم حولك.
العامل الثاني داخلي؛ يعود للوعي والإرادة والعمل، وطبعاً خلال حياتنا يمكن أن نغير العامل الخارجي بالهجرة سواء نحو الأفضل أو نحو الأسوء ويمكن أن نغير العامل الداخلي أيضاً نحو الأسوء أو نحو الأفضل ولهذا الوجود في العالم المادّي مهم جداً وأساسي لأن لدينا القدرة الكبيرة على تغيير وتصحيح كل ما يتعلق بالماضي ومنح فرصة أفضل للأجيال القادمة.
إذاً وصلنا إلى نهاية الفيديو ونهاية هذه السلسلة من الفيديوهات حول اللوغوس، وسوف نفهم أكثر اللوغوس في الفيديوهات القادمة خاصة عندما نتكلم عن كيفية تحقيق البدء في حياتنا وتجسيد اللوغوس في ذواتنا.صحيحٌ أن كل واحدٍ فينا هو إيقونة في اللوغوس الأوّل لكن أيضاً كل واحد فينا يمكن أن يكون لوغوس لمن بعده.
أختم هذه الفيديو بالقول أنّ الغنوصيّة تؤمن إن أي فكر لا يحقّق السّعادة الماديّة والمعنوية في هذه الحياة هو شر وإن كان حقيقة، وكل فكر يحقّق السعادة المادية والمعنوية في هذه الحياة فهو خير وإن كان كذباً وباطلاً.
نختم هذا الفيديو وأقول لكم شكراً على الاستماع، شكراً على التّشجيع، شكراً على التّوزيع ومع فيديو جديد. بالسلامة….
0 تعليق